وداعاً ابن الرباط فراس العراقي
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
حين التقيته في المرّة الأولى، بصحبة أصدقاء عراقيين، شبّهتُه بسعدي يوسف. بحتُ له بهذا الشعور في ذلك اللقاء البعيد (في التسعينيّات)، فوسّع فراس من مساحة ابتسامته (التي تميّز مُحيّاه عادةً)، وقال لي إنّي لست الوحيد الذي يشبّهه بابن جلدته، الشاعر المعروف. فراس عبد المجيد الصامت، الذي بالكاد تخرُج الكلمة من بين شفتيه، وإذا خرجت فقصيرة زهيدة الكلمات لكنّها تؤدّي وظيفتها التوصيلية جيّداً قبل أن تتبدّد.
عرّفني إليه الروائي العراقي صلاح عبد اللطيف، المقيم في كولونيا بألمانيا، في المرّة الأولى، في شقّة فراس الرباطية. وأتذكّر أنّه كان يقيم مع فراس مُؤقّتاً، في تلك الفترة، تشيكليّ عراقي لا أتذكّر سوى اسمه الأول المُزلزِل: رعد. وهو اسم من الصعب أن يُنسى. اسمُه يشبه حياته، فرعد هذا، عاش في الكويت في أثناء الغزو العراقي، وظلّ محبوساً هناك في بيت فارغ أشهراً إلى أن التجأ إلى منظّمة إنسانية ساعدت في خروجه إلى المغرب. بعدها، سمعت أنّه انطلق من هناك ليقيم في إسبانيا. وفي جلسة التعارف الأولى تلك، انضمّ، أيضاً، العماني الراحل حسن باقر المعروف بحسن بوس، والشاعر العراقي المقيم في آسفي جواد وادي.
هل أنت شاعر؟... "أحيانا"، قال لي إجابة عن سؤال في مصادفة لاحقة.. "ولكن، الأغلب أنا نحّات"، رغم أنّي لا أتذكّر أنّي وجدت منحوتاتٍ في بيته، وأنا لا أتحدّث، هنا، إلا عن زيارتَين يتيمتَين. عرفت فيما بعد أنّ له تاريخاً طويلاً في الصحافة المغربية. لا أدّعي أنّي صديق حقيقي لفراس، فثمّة مسافة عمرية بيننا، وأيضاً، مسافة تجربة وخبرات. ولم تكن تجمعني به سوى المصادفة، خاصّة حين يحلّ أصدقاء عراقيون على الرباط، فنأخذ معه استراحة في أحد المقاهي التي تتميّز بها المدينة العريقة. وكان يجذبني فيه أكثر العامل المشترك بيننا، الصمت. في كلّ لقاء كنت أطيل النظر إليه، وكان صمته وابتسامته الحيية الأكثر تميّزاً فيه. لم يكن فراس ميّالاً إلى النميمة، وهي طعام الجلسات المعروف بين المثقّفين. ولأنّي اعتدت المشي كثيراً في شوارع الرباط، فإنّي عادة ما أصادفه في الطريق قرب مبنى الإذاعة والتلفزيون أو في ساحة الورود (مارشي نوار). أستوقفه لأسلّم عليه، ولأنّي أعرف سلفاً أنّ الكلام قليل معه، فإنّ ذلك اللقاء يجب أن يكون خاطفاً قبل أن يشقّ كلّ منّا طريقه.
بعد عودته إلى العراق، ظلّ فراس وفياً لبلده الثاني، المغرب، وصرت بعد ذلك أصادفه في معرض الدار البيضاء للكتاب بصحبة عائلته: هل تتذكّرني؟... "طبعاً طبعاً.. العُماني". أجالسه قليلاً إذا وجدت كرسيّاً فارغاً بالقرب منه. ولا يوجد كلام أبلغ من الصمت مع فراس. دقيقتان أو أكثر قبل أن استأذنه منسحباً تاركاً إيّاه مع عائلته. لاحظت أنّه كان وفيّا لزيارة معرض الكتاب كلّ عام، ودائماً، مع العائلة العراقية. عادة وهو جالس يرفع رأسه قليلاً فوق مستوى الجالسين بقربه، وبذلك، فإنّك تلمحه سريعاً، حتّى وسط الزحمة، وكان السرّ في ذلك ابتسامته التأمّلية التي تشبه حَمَامَات رسائل يطلقها أمامه. لا بدّ أنّه كان يكظم آلام العراق في صدره ولا يثرثر بها، كما اعتدنا من بعض العراقيين حين تفيض الهموم المشتركة بينهم. للرجل طول عهدٍ في الصحافة في المغرب، تأسيساً وتحريراً، كما أعربت عنه كلمات بعد وفاته من أصدقائه المغاربة، الذين عايشوه وعملوا برفقته، قياساً بأوقات قليلةٍ ومصادفاتٍ عابرة التقيته فيها، ولكن، من قال إنّها أوقات قليلة؟! خاصّة إذا عرفنا أنّها تمتدّ قرابة أربعين عاماً مستقطعة من الزمن الطويل، قصيرة متباعدة، لو جمعناها ربّما لن تشكّل أكثر من نصف يوم، وكنت أظنّها ستظلّ مستمرّة على هذا المنوال المتقطّع، لأنّ هذا العراقي الصامت الجميل لم يكن يوحي لك بأنّه سيغادر الحياة قبلك.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية