بول أوستر وشجرة دوستويفسكي
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
سُئِل مرّةً الروائي الأميركي، بول أوستر، الذي رحل أخيراً (30 إبريل/ نيسان 2024)، عن البطل أو الشخصية الروائية التي يراها الأجدر في تاريخ الأدب، فأجاب: راسكولنيكوف بطل رواية "الجريمة والعقاب". وسُئِل أيضاً، عمّن يتمنّى أن يدعو من الكُتّاب الراحلين إلى مائدة العشاء، فذكر مجموعةً محدّدةً، منهم فيودور دوستويفسكي (1881).
أحياناً، يكفي أن تقرأ لكاتب ما عملاً شهيراً لتعرّف طبيعة أسلوبه. وكما يقال إنّ الأسلوب هو الرجل. والمعنى، هنا، أنّ لكلّ رجل، أو بالأحرى لكلّ إنسان، أسلوبه، سواء في الحياة أو الكتابة. لدى بول أوستر رواية شهيرة " ثلاثية نيويورك" أشاعت شعوراً بأنّه لم يكتب غيرها، أو أنّ كلّ رواية غيرها (إذا استثنينا سيرتَيه الجميلتين "اختراع العزلة" و"تباريح العيش") ما هي إلّا تنويع لتلك الثلاثية، ما جاء قبلها كأنّه تمهيد لها، وما جاء بعدها امتدادٌ أو دخلاتٌ من نوافذ مُتعدّدة للحدث الأميركي بامتياز. ولكن، ما طبيعة هذا الأسلوب الذي يتميّز به بول أوستر؟ نعرف أنّ سلفه الروائي الأميركي وليم فوكنر (1962) كان صاحب أسلوب خاصّ أعجب به كثيرون من كتّاب العالم وتأثّروا فيه. اعترف فوكنر نفسه بتأثّره بالكاتب الروسي العظيم. كان فوكنر يصارع لكي يمسك زمام أسلوب دوستويفسكي، حتّى إنّه كان يُخصّص وقتاً من كلّ عام لإعادة قراءة أعمال صاحب "الجريمة والعقاب"، ولنا أن نتساءل كيف يمكن لشخصٍ أن يقرأ أعمالاً سبق أن قرأها ويكرّر قراءتها مراراً إن لم يكن ثمّة مغزى من هذه القراءة غير المُتعة؟... هناك مغزى لدى فوكنر في إعادة قراءة دوستويفسكي، يتمثّل هذا المغزى ليس في التلصّص على عوالم صاحب "الإخوة كارامازوف" فقط، إنّما أيضاً، في استكناه الوصفة السحرية لأسلوب دوستويفسكي. إذ يتّحد المَكر والدقّة. يقال إنّ أحد النقّاد أحصى الخطوات التي يخطوها راسكولنيكوف بطل "الجريمة والعقاب" فاكتشف أنّها حرفياً بالدقّة نفسها التي توجد في الواقع، حتّى عدد السلالم كانت بالضبط كما ذُكِرَت. مزج الحقيقة بالمتخيّل، إلى الدرجة التي يتماهيان فيها، حرفية الواقع وجنوحه في آن (في "المقامر" و"الليالي البيضاء" لدوستويفسكي تبرز أكثر هذه القدرة الخارقة).
وليم فوكنر، خصوصاً في روايتَيه "الصخب والعنف"، و"بينما أرقد محتضرة"، تسلّم الراية من دوستويفسكي ليرسم أسلوبه الذي انطلق به ورسّخه، سنجد مثلاً شخصية الأهبل في "الصخب والعنف"، بيد أنّ فوكنر حقن أسلوبه بروافد إضافية حين استفاد من تيّار الوعي الذي أسّسه جيمس جويس، وعمّقته فرجينيا وولف. وبالعودة إلى بول أوستر، نكتشف أسلوبه من خلال هذا المزج: لقاء الواقع وتماهيه بالمتخيّل. الحسّ البوليسي الذي عُرف به دوستويفسكي انطلق من قراءاته اليومية لصفحات الحوادث في الصحف الروسية التي كانت تصدر في زمنه. حتّى إنّ روايته الأشهر "الجريمة والعقاب" هي في الأصل قصّة حقيقية وردت في صفحة حوادث لصحيفة روسية تلقّفها دوستويفسكي، ولا بدّ أنّه تحوّل مُخبراً وتحريّاً لكي يلملم خيوط حياة القاتل قبل أن يتخيّل باقي التفاصيل. أضاف بول أوستر إلى الأسلوب السابق لدوستويفسكي ما يمكن تسميتها اللعبة، حين يتحوّل القارئ شريكاً في هذه المطاردة البوليسية، فسنجد في "ثلاثية نيويورك" مصادفاتٍ كثيرة، وكأنّ الحياة لا تُبنى إلّا على المصادفة، ولا تنمو إلّا وسط الانعطافات المفاجئة. ودوستويفسكي، الذي كان يشتكي ضيق الوقت، لا يَبْخل أحياناً بإعادة كتابة رواياته، كما فعل مع روايته الضخمة "الجريمة والعقاب" إذ تخلّص من نسختها الأولى وأعاد كتابتها.
أضاف وليم فوكنر شيئَين آخرَين إلى الشجرة الدوستويفسكيّة، هما الظلال والرؤية البصرية. ستجد كلّ شيء قريباً من عينيك، وأن تقرأ وليم فوكنر. وكما أضاف بول أوستر عنصر المتاهة إلى رواياته الواقعية، أضاف قبله وليم فوكنر كاميرا العين، وتصوير حتّى ظلال الأقدام. الواقع (القذر) كان المنطلق للكُتّاب الثلاثة: دوستويفسكي، ثمّ فوكنر، ثمّ أوستر، ولكنّ كلّاً منهم ترك فيه بصمته وأسلوبه.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية