التواصل الرقمي ونهاية العزلة

13 يونيو 2022
+ الخط -

مع تراجع كوفيد-19، وتقلص المحاذير الشديدة المتعلقة بالحجْر، والانقشاع البطيء لعزلة شديدة كانت مفروضةً على حياتنا، نتج منها في المقابل ازدهار كبير للتواصل الرقمي غير المباشر بين البشر. وبذلك، هذه العزلة التي افترضنا أنها انتهت بانحسار الجائحة بسبب فعالية اللقاح ولّدت ضرباً جديداً من التواصل، ومرحلة تُؤذن بنهاية العزلة الفردية بمعناها التقليدي، والمقصود هنا أنّ عزلة كورونا التي استمرّت أكثر من عامين، وما تولّد منها من انقطاع في التواصل البشري ومن تباعد بين لقاءات الأفراد والجماعات، ساهمت في إيجاد بدائل حيوية أخرى للتواصل، وبالتالي، ازدهر هذا التواصل البشري ونما، لكن ليس خارج الوسائط الحديثة.
كان من النتائج المباشرة لفكّ عزلة كورونا الحذر أو التكاسل من عودة الحياة إلى سابق عهدها لما قبل كوفيد-19، وظل قائماً الاستمرار في الاكتفاء بالتواصل بالطرق الحديثة غير المباشرة. وهو أمرٌ يمكن ملاحظته بسهولة، وكأنّما تلك البدائل التواصلية التي أنتجتها عزلة الوباء أصبحت مستمرَأة وبديلاً مناسباً من التواصل الحميمي المباشر مع المعارف والأصدقاء والأقارب. يكفي، مثلاً، أن ترسل رسالة هاتفية في تعزية قريب أو صديق لك، والأخير يستقبل الأمر برحابة، لأنه هو الآخر سيسلك الطريق السهلة نفسها في أمر مماثل.
مع توافر وسائل التواصل التي تتكاثر جيلاً بعد آخر، نكتشف أنّنا نعيش عزلة مركّبة. في الحقيقة، يجب أن يتغير، في هذه الحالة، حتى مفهوم العزلة بمعناه التقليدي، بل يجب كذلك أن يمسح هذا المفهوم نهائياً، ويختفي بسبب عدم إمكانية وجوده الواقعي. الغريب أيضاً أنّ وسائل التواصل التي ساهمت في واحدية الفرد، وابتعاده عن التواصل المباشر مع أقرانه، زوّدته بوسائط أكثر سهولة ومرونة وتنوعاً لهذا التواصل، فتقنيتا ماسنجر وواتساب (مثلاً) تمكّناك من التواصل فردياً مع كلّ من تشاء، وحتى من دون أن تضطرّ إلى الاتصال بمعارفك هاتفياً. بل يكفي أن تسجّل لأيّ صديق مكالمة طويلة، تعبّر فيها عمّا تريده باسترخاء، وهو بدوره سيستمع إليها حين يجد الوقت المناسب، فالحديث عن عزلة مستحيلة سيجد معناه في مثل هذه الظروف، فلا يمكنك الآن أن تعيش دون هاتف، وذلك لأن حياتنا أصبحت مركّبة ومؤثثة في موانئ هواتفنا الصغيرة. وبالتالي، لا يمكنك، في الآن نفسه، أن تدّعي أنّك معزول، فأبسط مقتضيات الحياة تُنجَز عبر الهاتف. في عُمان مثلاً لا تستطيع أن توقف سيارتك إن لم يكن لديك هاتفك. ستحتاج إلى دفع رسوم الموقف عبر التطبيق الهاتفي، وإلّا فستحصل على مخالفة مضمونة. الأمر نفسه يقال عن المراجعات البنكية والمشاوير الكثيرة الأخرى. لو نسيت هاتفك مثلاً، فمن الممكن أن يتعطل جزء كبير من حياتك ذلك اليوم. سيكون يوماً شاقّاً لك، رغم أنك قد تخلصت من جهاز كان يشغلك حتى عن نفسك.
أتذكّر حين انتشرت رسائل الهاتف الجوّال (أس أم أس)، كنا نتفكّه، أنا وأخي، متحدثين عن رواية غابريل غارسيا ماركيز "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، وهي من أولى ترجمات صالح علماني التي كانت لها شهرة كبيرة، نظراً إلى جماليات تلك الترجمة وشاعرية لغتها في العربية. الأمر الذي جعل محمود درويش يقول إن علماني ثروة وطنية ينبغي تأميمها، وأمجد ناصر يصف ترجماته بعلامات الجودة المسجلة. صرنا نتساءل كيف يمكن أن يستطيع الآن الكولونيل أن يكاتب الآخرين من عزلته بالرسائل، لو كان يعيش في عصرنا، فلن يكون للرسائل البريدية أي معنى في هذا الزمن. ومع الوقت، أصبحت حتى رسائل "أس أم أس" بلا أيّ دور، بل مستغربة ونادرة، ولا تقوم بها سوى بعض الشركات الدعائية. أما التواصل البشري، فقد شقّ طرقاً أخرى جديدة، تزدهر وتنمو وتتجدد كل يوم، بحيث إنّه غدا من المستحيل الاستغناء عن بعضها، إن لم يكن عن مجملها، خصوصاً "واتساب" و"ماسنجر" من أجل التواصل البيني بين الأصدقاء والأقارب.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي