ثلاث ليالٍ في جيلان الإيرانية
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
حين انطلقتُ من مَسقط مسافراً إلى طهران على طائرة الخطوط العُمانية (طيران السلام)، كانت الحرارة في مَسقط تقارب الـ50 درجة مئوية، وكان زمن التحليق ساعتين وربع ساعة. وبسبب ما يمكن تسميته أرق ما قبل الرحيل، نمت قرابة ثلثي الطريق في الطائرة، لأستيقظ قبيل الوصول.
عند الخروج من الطائرة، كان ما يشبه الحلم، إذ صار الجو فجأة بارداً. وصلنا إلى طهران ليلاً، وكان لا بدّ من المبيت ليلةً قبل الانطلاق صباحاً إلى جيلان في الشمال الإيراني. وفي الفندق، استيقظت قبيل الفجر على هبّة بردٍ باحثاً عن المُكيّف كي أغلقه، لأكتشف أنّه لا يُوجد مُكيّف، إنّما كان ذلك البرد طبيعياً. الطريق إلى جيلان طويل نسبياً. انطلقنا في الصباح. ثلاث ساعات ونصف الساعة تحت زخاتٍ مطرٍ خفيف، وبين وهاد خضراء تتخلّلها أنفاقٌ مُتقطّعة. هنا، يجب أن تكون ثمّة وقفة مع الأنفاق التي تكاد أن تتناسخ تُخترَق بسلسلة الجبال الخضراء. أَخبَرني السائق، الذي يتحدّث العربية لأنّه من أهالي الأهواز، أنّ هذه الأنفاق استُحدِثت منذ زمن قريب، وكانت الطريق قبل ذلك في غاية الصعوبة والخطر بسبب ممرّاتها المُرتفعة والضيّقة، بينما هذه الأنفاق الواسعة والرحبة اختصرت المسافة. سترى وأنت تخترق جسوم الجبال الخضراء أنّك في قلبها، وفي نهايتها ستصادفك سلسلة من المطاعم الجبلية جاءت مكافأةً. هنا عليك أن تختار واحداً منها لتَزدرِد الطعام، وتلتقط صوراً حيث تمنحك الطبيعة أرديتها الجميلة لتأبيد اللحظة في حضنها. وفي الأسفل، حين تطلّ برأسك من أعلى المرتفعات، ترى مياه النهر وهي تشقّ طريقها ببطء أزلي.
وصلنا إلى مدينة جالوس البحرية، ولكن أكثر ما يغري فيها ليس البحر، كعادة أيّ مدينةٍ تطلّ على الخليج، بل الغابة. ففي هذه المدينة كمٌّ من المرتفعات الغابوية ما يجعلك تظنّ أنك سترى دُبَّاً قادماً من عمقها. كما يمكنك أن ترى قطيعاً من الأبقار يتمشّى حُرّاً. من المشاهد التي استوقفتني أنّ أبقارهم لها قرون مُسنَّنةً، ليست في أعلى الرأس كما هي عادة البقر، إنّما في الجبهات، في البداية يمكن أن تشعر بشيء من الهلع لدى رؤية المشهد الحرّ لتلك القرون. ولكن، يبدو أنّ الحرّية حتّى حين تُمنح للحيوان فإنّه يستأنس، ويتحرّك برشاقة بين البشر، ولا يميل إلى العدوانية، بخلاف لو رُبط.
في جالوس مناطق سياحية عائلية كذلك، مثل تلك الغُرف المُتسلِّقة (تلفريك)، التي تأخذك إلى أعلى الغابات وكأنّك تتسلّق بجسمك وخيالك معاً، وتضعك في وسط غابة مُجهّزة بمطاعم، قبل أن تعود بك من حيث انطلقت. الجوّ العام كان، كما يُترجِم لنا مرافقنا الأهوازي، يدور حول الانتخابات، وكان المُرشّح الأبرز الذي يبدو أنّ الشباب يميلون إليه هو مسعود بزشكيان. وفي المساء شاهدت مناظرة له مع مجموعة من المُترشّحين، وقد ترجم لي المرافق فقرات مُهمّة من حديثه المُتعلّق بالانفتاح على دول الجوار العربي، وكذلك بالاهتمام بالشباب والعمل، إلى جانب رفضه فرضَ قيودٍ اجتماعية عليهم. وكانت الفواكه، وخاصّة الكرز، تنتشر في عربات سواء في ضفّتي الطريق أو في قلب المدن. وكان سعرها رخيصاً، يضاف إليها المُشمش والبطّيخ، وأنواع أخرى من الفواكه، تتجدّد حسب كلّ موسم. ولكنّ الملاحظة الأولى، التي استوقفتني حين كنت أتمشّى بمفردي، أن لا العربية ولا الإنكليزية تفيدانك إن لم تكن تمتلك شيئاً من الفارسية. رغم اللطف الجمّ للناس، ستكون غريب الوجه واليد واللسان، كما قال أبو الطيّب المُتنبي حين زار أرضَ فارسَ: "وَلكِنَّ الفَتى العَرَبِيَّ فيها/غَريبُ الوَجهِ واليَدِ واللسانِ/مَلاعِبُ جِنَّةٍ لو سارَ فيها/سُلَيمان لَسارَ بتَرجُمانِ".
أمر آخر يمكن أن يستوقف الزائر كذلك، وهي العملة، فالأفضل أن تضع ما لديك من مال في بطاقة سحب إيرانية كي تستطيع أن تشتري ما تشاء، حتّى لو كان من عربة في الطريق. وعادةً يجري التبديل بالدولار الأميركي. بالإمكان طبعاً تحويل العملة الصعبة إلى عملات محلّية إيرانية، ولكن باستخدام البطاقة تكون العملية أسهل.
كانت زيارة أولى لبلد عمر الخيّام، البلد الجار الذي لا يفصل بيننا وبينه سوى البحر. وفي الإياب، كما في الذهاب، كانت الطائرة مليئة بالعُمانيين، وخصوصاً العائلات. وهناك أكثر من رحلة يومية من مَسقَط إلى طهران، وعبر خطوط طيران عديدة، بما فيها خطوط إيرانية. الطبيعة الخلّابة وفَرقُ الطقس والأسعار، أكثر ما كانا يغريان بالزيارة، وثمّة من يذهب أيضاً بقصد العلاج، إذ تشتهر مدينة شيراز بعلاج العيون.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية