الإسلاموفوبيا التي لا تخبو حتّى تضطرم

10 يونيو 2024
+ الخط -

 

هاجم شابّ عمره 25 عاماً فعّالية نظّمتها حركة "باكس أوروبا" المناهضة للإسلام المُتطرّف، والتي يندّد خطابها بـ"تأثير الإسلام السياسي في المجتمعات الديمقراطية في ألمانيا وأوروبا"، بحسب قولهم، في ساحة السوق في مانهايم، في الـ31 من الشهر الماضي (مايو/ أيّار)، وأصيب ستّة رجال من بينهم ضابط شرطة عمره 29 عاماً توفّي لاحقا متأثراً بجراحه. ولا تزال دوافع المهاجم، وهو أفغاني، غير واضحة.
وكانت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر قد أعلنت عقب الحادث في بيان: "إذا كشفت التحقيقات عن دافع إسلامي، فسيكون ذلك تأكيداً إضافياً للخطر الكبير الذي تشكّله أعمال العنف الإسلامية". وقال الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير إنّه يشعر بالقلق إزاء هذه الظاهرة، معتبراً أنّ الألمان "يجب ألا يعتادوا أبداً على العنف في معركة الآراء السياسية". وقالت زعيمة حزب الخضر ريكاردا لانغ، لقناة تلفزيونية، إنّ "التطرّف الإسلامي عدوّ لمجتمعنا الحرّ، وتجب معاملته على هذا الشكل، من الجهتين الأمنية والمجتمعية، ولا يمكن تبريره مطلقًا".
دعمت حكومات غربية بعض جماعات الإسلام السياسي لأهداف سياسية، وما زالت، تنفيذاً لأجنداتها الخارجية، هذا ما أطلق عليه مارك كورتيس "زواج المصلحة"، في كتابه "شؤون سرّية: تحالف بريطانيا مع الإسلام الراديكالي" (ترجمة كمال السيد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2012). ليست المقالة بصدد مناقشة هذا الأمر، أو عن تاريخ جماعات الإسلام السياسي، إنّما بشأن هذه الحادثة المذكورة، التي تكرّرت بأشكال متنوعة في العقد الأخير، وفي أكثر من بلد أوروبي، ما أسهم بشكل واضح في تقوية اليمين الأوروبي المُتطرّف وتوسّع قاعدته، ما يُشكّل تصعيداً كبيراً ومكثّفاً، وعدائياً، لصراع الهُويّات المتفاقم اطّراداً مع أزمة عالمية تتجلّى في اشتعال الحروب بين أقطاب النظام العالمي والدول الأقوى في بقع عديدة على الأرض، بالتوازي مع حرب باردة صارت ميادينها عديدة ومنوعة في عصرنا الحالي، وصارت الحرب السيبرانية وحرب المنصّات الإلكترونية إحدى أهم أدواتها، ما يدفع العالم إلى مزيد من القلق والخوف والاضطرابات الوجدانية.
المعتدي شاب أفغاني وصل إلى ألمانيا قبل عشر سنوات، ما يعني أنه كان في أول مراهقته، بل رسمياً كان ما زال ينتمي إلى عمر الطفولة، كبر، تزوّج، صار لديه ابنان، صار بالغاً ومسؤولاً أمام الحياة وأمام القانون. مُؤكّدٌ أنّ هذه البلاد وفّرت له أسباب العيش الطبيعي، وأمّنت حقوقه بموجب الدستور والقوانين المعمول بها، كذلك، ما دام أنّه صار لديه بيت وأسرة، فهذا يعني أنّه يعمل، أمّنت له الدولة الألمانية فرص العمل، والسكن، والعلاج، وتعليم أبنائه، وغير ذلك، ممّا يحتاج، وتحتاجه أسرته، فلماذا العنف؟

هل المشكلة بالفعل ناجمة عن "كراهية" موجّهة ومتأصّلة تجاه الإسلام والمسلمين؟ أم هناك أسباب تخصّ المسلمين أنفسهم، أسباب تعد مشكلات بنيوية مُتجذّرة؟

تتكرّر هذه الأحداث باستمرار، ما يجعلها سبباً فاعلاً في خيبة الأمل لدى بعض المؤمنين بحقّ اللجوء، ولو نظرنا إلى الواقع لرأينا أنّ التعاطف الكبير الذي أبداه الألمان، حكومة وشعباً، تجاه السوريين في أثناء موجة اللجوء الكبرى 2015، قد تراجع كثيراً، وأنّ الحوادث التي تقع في كلّ حين من مهاجرين مسلمين في غالبيتهم، تزيد في عدد المناهضين للجوء أو الهجرة إلى ألمانيا، وفي عدد المُؤيّدين للأحزاب اليمينية والشعبوية، التي تستغلّ هذه الأحداث من أجل التجييش ضدّ المهاجرين، والمسلمين منهم تحديداً.
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتّحدة قراراً باعتماد 15 مارس/ آذار يوماً دوليّاً لمكافحة كراهية الإسلام؛ "الإسلاموفوبيا"، المصطلح الذي عرّفته بأنّه الخوف من المسلمين والتحيّز ضدّهم والتحامل عليهم، بما يُؤدّي إلى الاستفزاز والعداء والتعصّب بالتهديد وبالمضايقة وبالإساءة وبالتحريض، وبالترهيب للمسلمين ولغير المسلمين، سواء في أرض الواقع أو في الإنترنت. وتستهدف تلك الكراهية، بدافع من العداء المؤسّسي والأيديولوجي والسياسي والديني، الذي يتجاوز تلك الأطر إلى عنصرية بنيوية وثقافية، الرموز والعلامات الدالّة على أن الفرد المُستهدَف مسلم. ودعت إلى العمل والحوار من أجل القضاء على هذا المفهوم، في سبيل تقريب الشعوب بعضها من بعض، لكن السؤال يبقى مطروحاً: هل المشكلة بالفعل ناجمة عن "كراهية" موجّهة ومتأصّلة تجاه الإسلام والمسلمين؟ أم أنّ هناك أسباباً تخصّ المسلمين أنفسهم، أسباب تعد مشكلات بنيوية مُتجذّرة، إن كان في مستوى العقيدة، كما تروّج وتمارس من مشايخ ومنظمات دينية لديها مشروع سياسي، أو في مستوى السلوك والنشاط وفهم الدين ودوره وتوجيهه في الحياة، وفي العلاقة مع الآخر؟
لا أحد ينكر أن هناك تمييزاً تجاه المسلمين في المجتمعات الغربية من الأحزاب اليمينية، لكن هناك شريحة كبيرة من المجتمع تدافع عن حقوقهم، وتحارب الكراهية ضدّهم، وتدافع عن ثقافةٍ باتت شبه متأصّلة في المجتمع، تتبنّى شرعة حقوق الإنسان، ومنها الحرّيات، وفي مقدّمتها حرّية الدين والمعتقد، وتضمنها دساتير الدول تلك. أليس من الأجدى استغلال هذه النقطة الإيجابية والبناء عليها في الخطاب والسلوك والممارسات؟ أليس من الأجدى استغلال هذه اللحظة التاريخية التي يتظاهر فيها الملايين في أنحاء العالم من أجل وقف العدوان على غزّة وضمان حقوق الشعب الفلسطيني، علماً أنّ المقاومة ضدّ الاحتلال، إن كان في غزّة وفلسطين ولبنان واليمن، أو في غيرها من المناطق التي تشهر دعمها القضية الفلسطينية ومعاداتها إسرائيل، بات اسمها "المقاومة الإسلامية"، لم تتظاهر الشعوب في العالم ضدّ قتل الشعب الفلسطيني لأنه مسلم، بل تظاهروا نصرةً لحقّ الإنسان، أيّ إنسان، في العيش، بينما تظهر غالبية الشعوب المسلمة "فزعتها" لأهل غزّة لأنّهم مسلمون بالدرجة الأولى. تعرّضت منذ أسبوع لموقف في الحافلة في برلين، عندما سألني شاب بجانبي، وأنا أقرأ على هاتفي الجوّال مقالة بالعربية، إذا كنتُ مسلمة، إذ باشر الحديث بسؤالي إن كان ما أقرأ هو القرآن، فقد عرّف نفسه أنّه ألباني مسلم، وكلّ كتابة عربية بالنسبة إليه قرآن، لأنّه لا يعرف العربية، ثم قال لي بحزن: "انظري كيف يُقتل المسلمون في غزّة".
لماذا يُقدّم الإسلاميون في دول الهجرة واللجوء، أو في بلدانهم الأصلية، أسباب نفور الآخرين منهم وازدياد رقعة الإسلاموفوبيا ومناصريها؟ أليس من الأجدى أن تعيش الشعوب المسلمة في العصر بدلاً من اغترابها عنه؟ أن تعيش في العصر وتبحث عن أدوات التلاقي مع الشعوب الأخرى وتستخدم أدوات الحوار العقلاني والمجدي في سبيل تسليط الضوء على قضاياها، بدلاً من أن تختصر الهوية الإنسانية إلى هُويّة دينية بملامح ماضوية، ونزعة نحو السيطرة وفرض الشريعة على العالم؟

لا أحد ينكر أن هناك تمييزاً تجاه المسلمين في المجتمعات الغربية من الأحزاب اليمينية، لكن هناك شريحة كبيرة من المجتمع تدافع عن حقوقهم

عندما خرجت في هامبورغ، في أواخر إبريل/ نيسان الماضي، تظاهرة نظّمها إسلاميون رفعت شعار "الخلافة هي الحلّ"، خرجت تظاهرات ضدّها، إنّما لم يشارك فيها المسلمون بشكل مؤثّر، بل كانت تظاهرات هزيلة، في وقتٍ خرج فيه عشرات الآلاف بين مواطنين عاديين ورجال نخب سياسية واجتماعية واقتصادية وممثلي أحزاب ضدّ الاجتماع الذي عقد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 في برلين لمتطرّفين يمينيين دعوا إلى خروج الأجانب من ألمانيا. ما دام هناك إصرار على الرسائل الإقصائية الكارهة للآخر، تروّج نزعة الهيمنة على العالم تحت شعارات، صار لها كثيرون من معتنقيها، بأنّ الإسلام هو الحلّ. وإذ نتابع تعليقات رواد مواقع التواصل الاجتماعي، فإنّنا نرى ترويج فكرة أنّ كلّ ظاهرة في العالم يرونها إيجابية، مهما حملت من التضليل، من زاوية نظرهم إلى الإسلام، مُردّدين مقولة الحمد لله على نعمة الإسلام. في وقتٍ لم يعد بالإمكان إغفال ما توفّره المنصّات من إمكانية تحطيم الحواجز أمام روادها الذين باتوا بالمليارات، من أجل فهم مساهمات بعضهم بعضاً، بما تقدّم من إمكانية الترجمة لكلّ نص أو مساهمة، وهذا يعزّز من انتشار الخطاب الكاره للآخر، والداعي إلى الهيمنة والسيطرة على العالم، فإنّ ظاهرة الإسلاموفوبيا ستتعزّز في المجتمعات، ما يزيد في قاعدة الأحزاب والجماعات اليمينية المُتطرّفة، ويمكّن النزعة العنصرية لدى تلك الشرائح، وهذا ما سوف يُؤدّي مستقبلاً إلى ازدياد العنصرية تجاه المسلمين، حتّى من ليست لديهم علاقة بتلك الأفكار الكارهة والعنصرية.
حقيقة، هناك تخوّف لدى قسم من الشعب الألماني من الوفود الكبير للاجئين إليها، تخوّف من زعزعة الاستقرار المجتمعي وإرباك الإرث الثقافي والعادات وتشويش الهُويّة الألمانية، التي تُؤدّي بالمجمل إلى الشعور بفقدان الوطن. إذ لا يمكن إغفال ما لعبته وتلعبه الوسائط المتعدّدة في العصر الحالي، والأخبار، على مدار الساعة، من قلق وتخوّف من الإسلام أمام هذا الطوفان الأصولي الدموي، الذي يُكرّس ثقافة الموت خارج المعرفة الحقيقية بحدود الموت. فكيف للإسلام أن يُؤكّد فعاليّته، بوصفه روحية كبرى في وسطٍ لا يُخفي رفضه القبول برؤى المؤسّسة الدينية للواقع والعالم؟ علينا أن نعترف بأنّ هناك أزمة، ومن الضروري البحث عن هذه الأزمة التي يشعر بها المسلمون شعوراً واعياً، ويدفعون ضريبتها في مجتمعاتهم، وفي المجتمعات المُضيفة.