اقتلاع الخوف من جمهورية الخوف
في بدايات تنصيب الوريث "الشرعي" لحافظ الأسد، بشار الأسد، رئيساً لـ"الجمهورية العربية السورية" في العام 2000، والذي أمسى اليوم "الرئيس المخلوع" أو "الهارب"، شاعت نكات متنوّعة في الشارع السوري، والنكات هي التعبير العفوي والموقف النقدي أيضًا عن روح الشعب وتفاعله مع الأحداث. ومن تلك النكات ما كان يستبطن حمولة كبيرة من الخوف في أعتى صوره وأرسخ معانيه، إذ درج أن يتصيد الشخص صديقه أو رفيقه أو من هو مقابله بزلّة "لاوعي" إذ يقول، على سبيل المثال، "هل تعلم أن أخت الرئيس، بشرى الأسد، قالت أو فعلت كذا؟"، فيهب المُخاطب ليصحّح: لا هي ابنة الرئيس وليست أخته.
هذه علامة فارقة ودامغة على مدى تجذّر الرهبة والخوف من حافظ الأسد في نفوس السوريين، ليس هذا فحسب، بل اقتران الخوف هذا مع التسليم بـ "أبدية" الأسد، التي كانت تترجمها شعاراتٌ تُردّد مثل الصلاة: إلى الأبد يا حافظ الأسد.
هذا ما أقام عليه "الأب المؤسّس"، أسس "جمهورية الخوف" ذات البصمة الخاصة، وأعمل أجهزته الأمنية، وكوادره الحزبية، وفرقه الثقافية، في تمكين هذه الجمهورية ورعايتها، كي لا يصيبها الترهل لناحية ضبط إيقاع سلوك الجماهير التي استبدلت الركوع إليه وتأدية طقوس الولاء والدعاء والعرفان، بالصلاة مهما كانت قبلتها.
إنما، للتاريخ والإنصاف، بزّ بشار الأسد أباه، وجعل السوريين ينسون، إلى حدّ ما، الظلم الذي مارسه عليهم، والظلمات التي رماهم فيها، هل هناك دليلٌ دامغ أكثر من كشف النقاب عمّا كانت غالبية الشعب السوري تسلّط الضوء عليه، وتنادي وتطلب من المنظمات الدولية والأنظمة القوية، أن تميط اللثام عنه، وتساعد الشعب السوري في الوصول إلى العدالة المطلوبة بمحاسبة المجرم الذي مارس كل هذا الإجرام بحقها، قضية المعتقلين والمغيبين، في السجون التي يكسر الشعب حالياً أبوابها المحصّنة، وكشف واقعٍ يفوق الخيال؟
الخوف هو العشبة السامّة التي تجرّعها السوريون على مدى أربعة وخمسين عامًا
ما ظهر، حتى الآن، من هول هذا الواقع القابع في ظلمات الأقبية تحت الأرض ورطوبتها، يدفع المشاهد، بعد الصدمة الأولى، إلى أن يستدعي تاريخ الأنظمة المستبدة الشمولية، أقله في التاريخ الحديث، علّه يجد ما يشبه هذا السلوك الجرمي المنظم المحكم في ممارسات تلك الأنظمة والأجهزة القمعية التي صارت، في معظمها، مطروحة أمام الشعوب بكل الوثائق والدراسات والأعمال البحثية والاستقصائية، وخضعت رموزها إلى شتى أنواع العلوم الإنسانية، من علم نفس واجتماع وفلسفة وغيرها، فاستنبطت المشترك في ما بينها، خاصة في مراحل تاريخية تزامنت فيها تلك الديكتاتوريات، منها ما اكتسب شهرة وعدّ علامة مميزة، مثل هتلر وموسوليني وستالين وماو، إلّا أن هنالك مستبدين آخرين، مثلما كتب الكاتب والصحافي أوليفييه جويز، فهو يقول: هناك أيضاً صور لطغاة أقل شهرة، مثل أنور خوجا أو موبوتو أو تيتو. الجمع بين هؤلاء الديكتاتوريين معًا في كتاب يجعل من الممكن إظهار أوجه التشابه بينهم، ورسم ملف شخصي وسيكولوجية الديكتاتور في القرن العشرين. إنها المرّة الأولى التي يجمع فيها هذا العدد الكبير من هؤلاء الرجال الذين ترأسوا الحروب والإبادة في قرن بربري".
إذا كان الأب قد أسّس لهذا النظام القمعي الشمولي، ورسّخ سلطة حزب واحد، واختصر الحزب والدولة والنظام في شخصه، وأحكم الإطباق بقبضة أمنية خانقة على جميع أوجه النشاط في المجتمع، فزجّه في حالة استنقاع مديد، إلا أنه كان شخصاً يجيد اللعب، حتى لو كان بنبش في جبالٍ من القذارة، ويعرف كيف يدير تحالفاته، وكيف يكون خادماً مطيعاً أحياناً، ونمروداً جباراً أحياناً أخرى. وبالتالي، يمكن تصنيفه في خانة المستبدّين "الكبار". أما وريثه فيمكن القول إنه ينتمي إلى فئة المجرمين أكثر منه منتمياً إلى المستبدّين، فهو لديه جهاز أمني راسخ وقوي ومتجذّر في المجتمع والتاريخ الحديث للدولة السورية، لكنه بحاجة إلى تفكيك شخصيته وتبيان الخيوط التي يتشابك بواسطتها مع أجهزته القمعية، وإخضاعه لدراسة تحليلية من الناحية النفسية، لكشف حقيقة تركيبته النفسية التي توحي بالإجرام اللامقيّد أو اللامشروط، الإجرام الجامح الجانح عن كل الأسس والقواعد.
مشاهد السجون التي يسمّونها "مسالخ بشرية" تكسر أقفالها، ومشهد المساجين الذين ارتبكوا أمام فتح أبواب معتقلاتهم على النور، خاصة النساء اللواتي ظهر الخوف في أقسى صوره على سلوكهن الذي أطاشته المفاجأة، استفزّ غريزة الخوف مما ينتظرهن عند الاستدعاء. هذا عدا ما تخفيه الأقبية الموغلة في العمق والظلام والسرّية، التي أكثر ما تشبه المتاهة المغلقة بشيفرة لم يستطع أحد فكها حتى كتابة هذه المقالة، تلك الأقبية المستعصية على الانفتاح إلا بالهدم تحت ضربات المطارق، هذه المشاهد وحدها كفيلة بتبرير خوف السوريين، أو فهمه، لقد أنساهم الابن جبروت والده، ولم تعد نكتة أن بشرى أخت الرئيس وليست ابنته تثير فضول السوريين.
الخوف ما زال في نفوس سوريين كثيرين، ليس من الأقليات فحسب، بل من الشرائح التي تنشد دولةً مدنيةً عمادُها المؤسّسات والقانون، علمانية تدعو إلى فصل الدين عن الدولة
الخوف هو العشبة السامّة التي تجرّعها السوريون على مدى أربعة وخمسين عامًا، أربعة وخمسون عامًا لم يعرف فيها الأطفال الذين ولدوا منذ استيلاء الأب على الحكم إلى اليوم رئيسًا غيرهما، بل صارت كلمة "الأسد" كافية ووافية ومانعة، فـ "الأسد" كلمة تعني سورية، الدولة، الحكومة، النظام، الأبد. وإلّا؟ الخوف يمنع التفكير في إلّا. ... لكن الشعب وصل إلى مرحلة الغليان، وكان لا بد من انفجاره منذ نحو 14 عاماً، وضع "الرئيس الفارّ" الشعب خلالها في بوتقة خيميائي مصاب بجنون العظمة وجنون الشغف بالسيطرة والقوة والإعجاب المرضي بالذات حدّ "البارانويا"، إلى أن جاءت لحظة الحقيقة: هذا الجبار "فرّ" مثل أي أرنبٍ مذعور، فرّ حتى من دون الوقوف لحظة أمام فكرة "الرجولة" أو "شرف الانتحار" كبعض المستبدّين الأصليين. لقد برهن على أنه نسخة مزوّرة مغشوشة عن المستبد، فرّ، واكتشف الشعب السوري أي لجّةٍ كان يحشُرهم فيها، اكتشف الحقيقة لكن لم يكتشف خوفه بعد، هذا الخوف هو الذي جعل قسماً من الشعب يشهر تأييده الفصائل التي قادت المرحلة، وفي مقدّمتها هيئة تحرير الشام، الخوف المتأصل الذي استعاد تاريخ هيئة التحرير منذ انبثاقها من جماعة القاعدة، وتبنّيها فكرها ونهجها، ومنذ أن كان اسمها "جبهة النصرة" وخطابها وممارساتها العنفية والإقصائية حينها.
صحيحٌ أن الجماعة بدأت مسيرة تغيير أسلوبها، ابتداء بتغيير اسمها، وانتهاء بالكشف عن اسم زعيمها وإعلان اسمه الأصلي، أحمد حسن الشرع، طاوياً خلفه سيرة أبو محمد الجولاني، وربما دعماً لنسيان تاريخ الهيئة، عدا عن نضوجه السياسي اللافت، وما أبدت الفصائل تحت قيادته من محاولة لضبط المرحلة، إلّا أن الخوف ما زال لاطياً في نفوس سوريين كثيرين، ليس من الأقليات فحسب، بل من الشرائح التي تنشد دولةً مدنيةً عمادُها المؤسّسات والقانون، علمانية تدعو إلى فصل الدين عن الدولة.
دمّر النظام السوري بنيان الفرد السوري، ودمّر مستقبل البلاد والأجيال، وجعل من سورية مشكلة تخصّ العالم كله
هذا الخوف مبرّر، لكن من المهم بمكان اليوم احترام فرح الشعب بخلاصه من مجرم أمعن في إجرامه بحق الشعب، والدولة، لقد دمّر بنيان الفرد السوري، ودمّر مستقبل البلاد والأجيال، وجعل من سورية مشكلة تخصّ العالم كله، حتى أصبح كل يوم إضافي في وجوده على رأس السلطة يعني تفاقم المصيبة، كان الخلاص منه أولى الضرورات، وهذا ما حققته هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها. هل هي لعبة دولية؟ وما الغريب في الأمر، فمنذ متى كانت سورية مستقلة في "لعبها" وابتكار حياتها؟ فكيف بهذه السنوات الحارقة التي رهن فيها الأسد حاضرها ومستقبلها للاعبين الإقليميين والدوليين؟ خاصة أنه جنح في رهانه إلى أحصنة خاسرة في لعبة الأمم الحالية، هل كان رهانًا غبيًّا؟ من الصعب الفهم حاليًا، لكن ليس من الصعب الإقرار بالإجرام بحقّ الشعب لمن كان حتى يوم سقوطه لا يريد ان يقرّ أو يفهم.
اقتلاع الخوف من جذوره أمر يلزمه صبر. كما أن أمام الشعب السوري واشتغال حثيث ومعقّد، مع بقاء عيونه مفتوحة على أداء الأطراف الجديدة التي استلمت زمام الأمور وإدارة الحياة في سورية، وهي مهمّة صعبة جدًاً، إنما يبقى الخوف مشروعاً بالنسبة لهذا الشعب، خاصة أمام المستقبل الضبابي الغامض للمنطقة، من دون أن ننسى أن إسرائيل هناك، تستغل الظرف وتتمادى على الأرض السورية، كغيرها من الأطراف الأخرى.
من حقّ الشعب السوري أن يخاف من المستقبل، القريب منه على الأقل، فهو لم يُشفَ من خوفه المتأصّل بعد، وليس من السهل أن يشعر بالثقة بأي طرفٍ كان، قبل أن تنجلي ملامح الواقع الجديد، إنما من حقه اليوم أن يعيش نشوة اللحظة.