الأكثرية التي تحتاجها سورية
لم يسقط النظام السوري، نظام الأسد، في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، بل سقط في الواقع منذ عقود. أمّا لحظة انهياره المدوّية فكانت في ذلك اليوم. نظام كان يحمل بذور سقوطه منذ تأسيسه، باحتكار السلطة لصالح حزب وحيد، اعتلاه فرد مارس سلطته بالقمع والقوة والقبضة الأمنية، وقامت على الفساد والمحسوبيات وانتهاك دعائم الدولة الحديثة التي كان يدّعي أنه يديرها ويحميها، وبإقصاء الشعب عن المشاركة في القرار وفي صنع السياسات الداخلية والخارجية، وزجّ المجتمع في حالة استنقاع مديدة صدّرها إلى الرأي العام المحلّي والخارجي حالةً من الاستقرار. وعندما وصل مرحلة الانهيار، لجأ من أجل بقائه في السلطة وحماية نفسه وملكيته إلى البطش بأعنف أشكاله، وإلى استدعاء الخارج لحماية عرشه، وسقط القناع الأخير ليظهر أنه لم يكن إلّا عدوّاً للشعب.
سورية، بعد سقوط الاستبداد المديد، منهكة. لقد خلّف النظام وراءه دولةً منهارةً ومجتمعاً متهتكاً، بعدما دقّ خلال العقود الخمسة الماضية أسافين بين مكونات الشعب من أجل أن تبقى يده مبسوطةً فوق الجميع، فإذا بالمجتمع يُقسّم بين فئات، وتترسخ مفاهيم لا يمكن أن تلائم مفهوم الدولة الحديثة، ولا المجتمع المدني، وصار ينظر إلى الشعب السوري أقلياتٍ وأكثريةً، وحُجّم في هذه الدائرة الضيقة، مع أن هذه المكونات كلّها هي أصيلة في النسيج السوري التاريخي، بل تسرّب هذا الفهم للمجتمع إلى نفوس شريحة كبيرة فأصبحت غير قادرة على رؤية الحياة مع شركاء الوطن إلّا من خلال هذه الزاوية.
أكثر ما يحتاج إليه الشعب السوري حالياً هو طمأنته بالنسبة إلى المستقبل، هذا لا يتحقّق إلّا بأفعال تترجم في الواقع
لم يعد مفهوم الحقوق الإنسانية التي تكفلها دساتير الدول الحديثة يقوم على المساواة، كما يفترض في دولة المواطنة، بل أصبحت الحقوق شرائحَ ومستوياتٍ ما دام أن هناك أقلّيات وأكثرية وفق تصنيف ديني أو قومي، وطالما كان منتهى مطالب الشعب إضفاء الشرعية الكاملة على الأقلّيات كي تنال حقوقها، وترتفع إلى مستوى الأكثرية. بينما تعني المواطنة أن كلّ فرد عضو في المجتمع، له حقوق وعليه واجبات، يتساوى فيها مع جميع المواطنين، وليس على أساس هُويَّة دينية أو قومية أو عرقية أو جندرية أو مالية أوغيرها.
كان النظام المارق يمارس طغيانه واعتداءه على الشعب كلّه، فكان الشعب يتشكّل من أكثرية مسلوبة الحقوق والكرامة، وأقلّية مستفيدة من فساده، ربطت مصالحها به. كان ينتهك المواطن في الأساس، وأول انتهاك للمواطن والمواطنة كان ترسيخ تفصيل المجتمع على أساس جماعات دينية وطائفية وإثنية وقومية، ما أدّى مع الوقت واستمرار معاناة الشعب وتفاقمها إلى تراجع المجتمع (في قسم كبير منه) إلى مرحلة ما قبل الدولة، والتمسّك بجسد الجماعة التي ينتمي إليها الفرد كي تحميه من الآخر، الذي هو شريكه في الوطن والتاريخ.
الأكثرية المنتجة التي يمكن أن يبنى على أساسها وطن معافى، ودولة قوية، ومجتمع حيّ، هي الأكثرية التمثيلية التي تأتي بانتخابات حرّة نزيهة يمارس فيها كلّ مواطن حقّه وواجبه الانتخابي، هذه هي الأكثرية التي تعبّر عن حيوية المجتمع وقدرته على الحياة والتطوّر ومواكبة العصر. الدولة الحديثة، التي أظهرت أنها الأكثر قدرة على الديمومة والاستقرار، تقوم على دعائم أساسية تحقّق المساواة لجميع المواطنين من حيث الحقوق والواجبات، فيخضعون بالتساوي إلى القوانين، لا تمنح رجال الدين أو العسكريين أيّ سلطة على المجتمع، أو تميّزهم من باقي المواطنين، وتفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية.
سورية اليوم ليست في أحسن حالاتها، بل هي خارجة من معاناة مديدة وقاسية، لديها جبال من المشكلات المتجذّرة، لن تكون مهمّة مواجهتها سهلةً أمام أيّ حكومة تدير البلاد حالياً، ليست مشكلات محلّية فحسب، بل تحدّيات خارجية بوجود أطراف دولية وإقليمية كانت تدير الأزمة منذ سنوات. وسورية اليوم أمام تحدّ وجودي كبير، ما جعل القلق والخوف يسيطران على نفوس الشعب المنهك، الخوف من المستقبل الغامض إلى هذه اللحظة. أكثر ما يحتاج إليه الشعب حالياً هو طمأنته بالنسبة إلى المستقبل، هذا لا يتحقّق إلّا بأفعال تترجم في الواقع.
ما أظهره أحمد الشرع (إلى كتابة هذه السطور)، في خطبه ومقابلاته، أنه براغماتي يعرف كيف يحاور ويرسل الرسائل المطمئنة إلى الغرب تحديداً، في سعي إلى انتزاع الاعتراف بحكومته المنتظرة، ما يترتّب عليه فتح أبواب تنقل سورية إلى مرحلة التعافي، لكن هناك غموضاً في قضايا معيّنة تُبقي على القلق والترقّب حاضرين في نفوس السوريين، خاصّة إذا ما توقّفوا عند التشكيلات الحكومية الحالية التي استأثرت بها مجموعة هيئة تحرير الشام، والخطاب الذي يتوجّه به بعض ممثليها إلى الرأي العام، كقضايا المرأة والحرّيات وشكل الدولة المنتظرة، وهي خطابات، إن لم تكن صريحةً، فهي مواربة، لكنّها تشفّ عن توجّه يقيّد الحرّيات ويُقصي المرأة من الأدوار القيادية في الدولة والمجتمع.
ما تحتاجه سورية من أجل بث الطمأنينة قبل كل شيء، وضمان إقبال السوريين على تقديم رؤاهم ومشاركاتهم في العتبات الأساسية لبناء سورية الجديدة (الدستور)، هو مؤتمر وطني تدعو إليه الحكومة من أجل طرح الرؤى والوصول إلى التأسيس لهذه العتبة. لا يكفي أن تكون مهمّة صياغة دستور للبلاد بين أيدي الخبراء والمتخصّصين فحسب، بل يتعلّق الأمر بماهية الجهة التي تشكّل اللجنة، فهذا الأمر التأسيسي يحتاج إلى مشاركة الشعب في اختيار هذه المجموعة من الخبراء والمتخصّصين، لتترجم تصوره عن دولته المستقبلية.
تحتاج سورية إلى مؤتمر وطني تدعو إليه الحكومة من أجل طرح الرؤى والوصول إلى دستور
عندما تساهم مكونات الشعب كلّها في صياغة الدستور، ويطرح للاستفتاء، وينال الأغلبية، عندها يكتسب الشرعية، ويصير ملزماً للحكومات المتعاقبة، التي تأتي بانتخابات حرّة نزيهة، وعندها يصير هناك تداول للسلطة التي تخضع لمراقبة ومحاسبة مجلس الشعب المُنتخَب بحرّية ونزاهة أيضاً، يتمثل فيه الشعب من طريق ممثّليه، يُطرح فيه كلّ مشروع للتصويت، فإن حظي بتأييد الأكثرية أصبح قانوناً، من دون أن نهمل دور المعارضة وأهميتها في البرلمانات المنتخبة في الدول الحديثة، الديمقراطية منها على وجه الخصوص، التي يكمن دورها في مراقبة أداء الحكومة الحالية ومنع الخطأ أو الجنوح.
هذه هي الأكثرية والأقلية التي يحتاجها الشعب السوري كي يحمي نفسه من أزمات إضافية تعوقه في طريق التعافي والنهوض من أجل بناء دولته من جديد، هذا لن يتحقّق من دون دولة مواطنة تكون على مسافة واحدة من جميع مكوّنات الشعب، لا تتدخّل في الأديان، ولا تفسح مجالاً لها في صناعة السياسات، وتعزّز مفهوم المساواة فلا تجعل من المعتقدات الدينية أداةً للتمييز بين المواطنين.
ليس من الحكمة تقويم نظام الحكم المنتظر في سورية في هذه اللحظة، لكن مراقبة الأداء والخطاب ضروري، فالمطالب الشعبية بدأت تعبّر عن نفسها بمظاهرات انطلقت في دمشق وبعض المدن الأخرى، غالبيتها من شرائح عمرية شابّة، تطالب بدولة علمانية، وعلى الإدارة الحالية أن تراقب الشارع وتلمس نبضه وتطلّعاته، وتضع مفهوم الأكثرية والأقلّية في مكانه الصحيح؛ تمثيل رغبات الشعب وطموحاته.