عن سورية الغائبة عن تقرير مصيرها
تُظهر لنا الوقائع في الأرض السورية، من دون تخمين (ما دام اللعب على المكشوف منذ سنوات، والأطراف الضالعة لا تخفي ضلوعها بالشأن السوري)، أن هناك صراعاً يدور، والمعارك الحالية تتصاعد نحو العنف المتزايد، وكأنّ الشعب السوري لم ينلْ من القتل والتدمير ما يزيد على قدرة أيّ شعبٍ على احتمال جرعات الموت. وأكثر ما يقتلني ببطء اليوم، هو الصمت، لا أسامح نفسي على صمتها أمام هذه الخسارات الفادحة. نعم، إنها خسارات ما دام مزيدٌ من الدم يتدفّق، ومزيد من التهجير والنزوح، ومزيد من تمكين الأسافين بين مكوّنات الشعب السوري. لن يعجب كلامي غالبية السوريين على مختلف اصطفافاتهم، فالصوت المسموع والمطلوب منذ 13 عاماً هو صوت التجييش وشحذ العواطف العصبية والثأرية.
أقلقني صمتي أمام استحقاق الكتابة، لقد كتبت منذ إرهاصات انتفاضة الشعب السوري في قضايا كنت أظنّها يمكن أن تلامس الوعي العام وتضيء الزوايا المعتمة، حيث تكمن أفاعٍ تخزّن السمَّ لتعضّ بأنيابها جسد الشعب السوري وتنفث سمومها فيه، لكنّني كنت واهمةً مثلي مثل كثيرين غيري، ممّن كانت لهم زاوية رؤية خاصّة تجاه ما يحدث، ورؤيا ترنو نحو مستقبل يدغدغ أحلام السوريين، مستقبل يكونون فيه أحراراً من أشكال الاستبداد كلّها، يمتلكون فيه أدوات بناء دولة حديثة قائمة على المواطنة والديمقراطية، وضمان الحقوق، وقبل كلّ شيء تحترم كرامة الإنسان وتصونها، أدوات تمكّنها من الدخول في العصر والعيش فيه، وتكون قادرةً على القيام بما يمكّنها من الاستمرار في الحياة، دولة قانون ومؤسّسات متحرّرة من حتمية الزعيم، يكون للشعب فيها القول الأول والأخير من طريق انتخاب ممثّليه بطريقة نزيهة وواعية، ويكون للشعب حقّ محاسبتهم عندما يخطئون أو يستخفّون بمكانة البلاد وسيادة الشعب وملكيته دولته. لم أكن واهمةً فحسب، بل كنت في مرمى الأطراف كلّها، الأطراف المتحكّمة بأماكن نفوذها التي لا تقبل صوت العقل، وإن نجوت مع كثيرين، فإنّ كثيرين أيضاً غُيِّبوا بطريقة عنفية أو بأخرى.
ما الذي حصل؟... كانت الخيبة كبيرة، الخيبة من أن انتفاضة الشعب التي كانت ترنو إلى ثورة متكاملة تُقلب فيها الطاولة ويعاد ترتيبها بشكل يليق بحياة الشعب وبكرامته، تحوّلت حرباً أدّت إلى هذا الواقع الذي يخفي خلفه الحقائق التي لا يمكن نكرانها، حقائق كان الأحرى بنا أن نقف في وجهها ونحاربها، حقيقة أن هناك في سورية أيادي عديدة تمسك كلّ واحدة منها بجهة من جسد هذه البلاد، حقيقة أن أميركا هناك، وروسيا هناك، وإيران هناك، وتركيا هناك، وإسرائيل قبل الجميع هناك، وواقع أنّنا انكشفنا باكراً، انكشف تهتك نسيجنا الاجتماعي، وانتهاك مفهوم الوطن إلى حدّ تشظيه، وحقيقة أنّنا لم ننتمِ إلى شعب، ولا إلى مجتمع، ولا إلى أمّة، ولا إلى دولة، كنّا جماعات تعيش بجانب بعضها بعضاً بقوة عُليا هي الجامع الوحيد بيننا، قوة استبداد متمكّن متحالف بعضه مع بعض، استبداد ديني اجتماعي سياسي، وتحت هذا الغطاء المُحكَم كنّا مرجلاً يغلي، وما إن لعلع الرصاص حتى بتنا جماعاتٍ طائفيةً ومذهبيةً وإثنيةً تتقاتل في ما بينها وتستقوي بالخارج، لكلّ جماعة "أمّ حنون" تمدّها بفائض الحنان وفائض الوعظ والتوجيه، وفائض السلاح.
أبحث عن سورية فلا أجدها، لا أجد غير جغرافيا منتهكة مقسّمة مسلوبة القرار مجهولة المصير
أواجه نفسي دائماً بسؤال: هل كان من المستحيل حقن الدماء وتجنّب هذا القتل والتهجير والنزوح والدمار كلّه، بدلاً من جعله كرة ثلج تزداد ضخامة وفظاعة كلّما تدحرجت إلى الأمام؟ أما كان من الممكن أن يلتقي السوريون عند قواسم مشتركة لها علاقة بالوطن؟... وكان سؤالي يستعصي أمام انغلاق الأفق في وجهه عندما استدعى عقوداً من الماضي القريب، وليس البعيد، عقوداً من الاستبداد والاستنقاع جعلت من الشعب جماعات وفرقاً تخوّن بعضها وتضمر بعضها تجاه بعض شعوراً إقصائياً ازدادت ضراوته مع كلّ يوم من العنف، فيزداد الضجيج في رأسي. لو كانت الأنظمة السياسية تعير الشعب اهتمامهاً، وتقيم له وزناً، وتضعه هدفاً في عملها السياسي وإدارة الشأن العام، لربّما ما كنّا سنرى هذا الانقسام الفظيع القائم على مبدأ أساس؛ الطائفية. ليس اليوم فحسب، بل منذ الشهور الأولى لانطلاقة الانتفاضة الشعبية، الانقسام حول شخص الرئيس، شريحة كبيرة من المؤيدين كان دافعهم طائفياً في الأساس، حتى لو تلطّى خلف بنود عريضة يشهرها، كالوقوف في وجه المؤامرة أو حماية الدولة أو حماية "علمانية" الدولة، وهي لم تكن في الواقع دولةً علمانيةً، وهناك شريحة كبرى ممّن انتفضوا كان دافعهم طائفياً انطلاقاً من أن هذا النظام القمعي غير شرعي لأنه لا يمثّل أغلبية الشعب الواقع تحت الظلم. استعر هذا الصراع في أرض الواقع، بينما لم تكن هناك مؤامرة بالفعل، كنّا نحن المؤامرة عندما تجاهلنا العوامل الأخرى كلّها، وتمسّكنا بعامل وحيد، فازدادت الثأرية، وازداد عمق الأسافين التي تُدقّ في جسد سورية. صودر وعي الشعب وتعرّض لتضليل كبير، وغُذّيت النعرات الطائفية والعرقية والقومية، فانقسم الشعب ولاذت فرقه بالخارج، كلّ فريق اتخذ من طرف خارجي مرجعه وسنده ومموله وضامن مستقبله، وبالتالي راح الوطن، ورفرفت الرايات الملوّنة فوق ترابه.
صودر وعي الشعب وتعرّض لتضليل كبير، وغُذّيت النعرات الطائفية والعرقية والقومية، فانقسم الشعب ولاذت فرقه بالخارج
صمتي كاتبةً لا يمكن أن يتمادى على روحي إنسانةً تنتمي إلى الإنسانية قبل كلّ شيء، أكتب لأنني امرأة تنتمي إلى تلك الأرض التي كانت تسمّى سورية، البلاد التي أبحث عنها فلا أجدها، لا أجد غير جغرافيا منتهكة مقسّمة مسلوبة القرار مجهولة المصير. بقدر ألمي ممّا وقع (ويقع)، لا أستطيع أن أشيح بوجهي أو أصدّ سمعي عن فكرة لم تبرح رأسي منذ سنوات، فكرة أن الاستبداد وحده كفيل بدقّ أكبر إسفين بين الدولة والشعب، وأن انهياره مدوٍّ ومدمّر بحيث لا يغادر، وهناك حجر فوق حجر، وأن بقاء أيّ حال من المحال، لكن يقابل هذا السؤال سؤال آخر عن اليوم التالي، دائماً ما يجري الحديث في حروب مديدة مدمّرة عن اليوم التالي، ما شكل سورية المُقبل؟ من سيدير الدولة فيها؟ هل ستستأثر بالحُكم الأطراف التي قامت بتغيير قواعد اللَّعب وتغيير الواقع، فتفرض شريعتها التي يطمح الشعب السوري، بغالبيته، بمستقبل أكثر إشراقاً لناحية الحرّيات والمواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية؟ وهل سيستفيد من بقي من السوريين من التجربة ومن دروس التاريخ المشابهة، فيعملوا منذ الساعة الصفر في اليوم التالي وفق قواعد العدالة الاجتماعية التي تضمن للضحية حقوقها، من أيّ شريحة كانت، ويدركوا أن بناء حياة ووطن على ركام الماضي يحتاج إلى هذا الإجراء "الذرائعي" من أجل استمرار الحياة، وأن يعرفوا أن الواقع كان يخفي خلفه حقيقة أن كلّ الأطراف التي كانت تدعم وتساند، لم تكن تدعم الشعب ولا قضاياه ولا حقوقه، كانت تدعم مصالحها فحسب، وتأخذ من الشعب أدوات وحطب احتراق في حروبها، وها هو الدليل الأكبر، الأطراف الضامنة التي تجتمع منذ سنوات من أجل دراسة وتدبير الواقع في سورية، ويجتمع مجلس الأمن ليتبادل الأطرافُ الاتهاماتِ من دون الوصول إلى العتبة الأولى التي ما زالت بعيدةً، الحلّ السياسي. تشتغل بشكل حثيث في مشاريعها، وكلّها تجاهر بشعار كبير "الإصرار على وحدة سورية"، بينما سورية وحدها الغائبة عن واقعها وتقرير مصيرها.