نزار قبّاني... أغنية في الطريق إلى مشروع دُمّر

21 مارس 2021
لقصيدة نزار قدرة حسية توجد في النص حالاً من الطرب (أرشيف)
+ الخط -

لم يكن السرفيس، أو الميكرو، في دمشق أيام الدراسة، مجرد وسيلة نقل، تناسب حالي المادية، وتصل بيتي النائي في مشروع دمر بقلب المدينة، بل كان أيضاً منصّة "تثقيفية"؛ فمن مكبّر مذياعه، أو مسجّلته، الذي كان يعلو شديداً ليطغى على هدير محرّكه، اطّلعت على آخر إصدارات الأغنية التجارية الشعبية والشبابية، التي قلّما سمعتها في مناسبة أخرى غير ركوبه. 

والسرفيس، إن سأل قارئ، هو مركبة بيضاء اللون على الغالب، من طراز "الفان"، تتّسع لستة رُكاب، عدّلها الشوام ليُحشَر بها أكثر من عشرة. كانت قد ظهرت فجأة في شوارع العاصمة أول التسعينيات، كوسيلة نقل خاصة رخيصة تُعوّض عجز وسائل النقل العامة وتُجنب جيب المواطن كلفة التاكسي. يُحكى أن أولها كان يُخصّ أحد المغتربين في الكويت، بدأ بتشغيله على الخط حين تقطّعت به السبل، بعد أن أصبح لاجئاً في بلده، عقب اندلاع حرب الخليج الثانية.

ما زلت أذكر تلك الصدفة السمعية المؤثرة، خلال أمسية دمشقية ماطرة، وأنا أركب السرفيس، متأبطاً كماني، في طريق العودة إلى البيت من المعهد العالي للموسيقى والفنون المسرحية، بساحة الأمويين شمال غرب المدينة، حين سمعت لأول مرة أغنية للفنان العراقي كاظم الساهر، يُغنّى أبياتاً لحّنها، تعود إلى الشاعر السوري الراحل نزار قباني، والذي يُحتفى اليوم بذكرى ميلاده الثامنة والتسعين.

لم يشدّني في الأغنية ألحانها، ولا شكلها أو بنيانها، بل أسرني الكلام، أنا الذي قلما استأثرت بي نصوص الأغاني، أو حفظت أيّاً منها، عربية كانت أم أجنبية. فجأة، غاب هدير المحرك، وغاب معه حتى صوت الساهر، وبدأت أُحس لوهلة كأن روح الشاعر سكنتني، وصرت أنا العاشق التائه أخاطب نفسي، كما تقول الأبيات: "علّمني حبك يا سيدتي أسوأ عادات... علّمني، أخرج من بيتي لأمشط أرصفة الطرقات، وأطارد وجهك في الأمطار وفي أضواء السيارات". 

الأبيات من قصيدة "الحزن"، التي نُشرت سنة 1970 ضمن ديوان "قصائد متوحّشة"، من بين جملة دواوين أشارت إلى عبور قباني من نيو كلاسيكية منتصف القرن، إلى غزلية غنائية، عكست أنوار المشهد الفني المصري الساطعة، التي عاشها في القاهرة، طالباً يدرس الحقوق. حينها، لمع نجمه باكراً، كاتباً معاصراً للقصيدة القابلة للتلحين والغناء، تنافسَ على أدائها أكبر النجوم، من أم كلثوم إلى عبد الحليم حافظ. 

أجاد نزار النظم على بحورٍ متحركة كالرمل والمتقارب والمتدارك، التي ناسبت إيقاعات المرحلة من ثنائية ورباعية، كالبلدي المقسوم والملفوف. من جهة المضمون، استجابت لغته الحسيّة المباشرة لحالة الفوران الجماهيري، الذي انعكس على شاشات السينما المصرية، الغنائية منها على وجهٍ أخص، وفي الشارع السياسي الملتهب، تزامناً مع التهابات أخرى في عواصم عالمية نهاية الستينيات، علاوة على التهاب القضايا العربية المزمن، من تحرر اجتماعي وديني، وسياسي، داخلي وإقليمي، بدأ يتّخذ له صفة نضالية، تمحوراً حول القضية الفلسطينية.

في ثقافةٍ يبقى الشعر عمادها الأساس، لم يكن غريباً أن تحلّ  قاماته العالية على الأغنية، لتُستقبل في قاعات الشرف. قبل نزار قباني، كان أحمد شوقي وسعيد عقل، ومن بعده أتى محمود درويش، منهم من انفتح على تلحين قصائده، ومنهم من تردد، ثم استجاب، أمام استمالات الفنانين من ملحنين ومطربين، وتوسّلاتهم أحياناً، إذعاناً ربما، لوعدٍ بشعبية لم يكن أيّ منهم ليحظى بها، إن بقيت أشعارهم حبراً على ورق. 

لكن ما يجعل من نزار قباني عبقرية شعرية فريدة في الأدب العربي الحديث، هو أن شعره يتناهى موسيقى خالصة، سواءً بتلحين أو من دونه؛ لئن تبدو الموسيقى، في صورة عامة، كما لو أنها أقصى الشعر، ومُنتهاه، لجهة التجريد والتعبير المجازي المطلق حتى من الحروف والكلمات، فإن الموسيقيّة في شعر نزار تبدو مكتملة بحد ذاتها، ومن صلب العمارة الأدبية والصياغة الفنية. 

من أوجه تلك الموسيقيّة، الوحدة العضوية بين الشكل والمضمون، إلى درجة انحلال المعنى التام وذوبانه الكامل بالوزن الشعري. فبشكل عام، سواء أكانت العبارة في الشعر صريحة أم مجازية، مُجسّدة أم مجرّدة، ظلّ الوزن على الدوام حاملاً للمعنى، يؤطِّر صوراً في إدراك الشاعر، ومن ثم القارئ. أما نصّ نزار، فالمعنى فيه هو الوزن والإيقاع هو الصورة، وله بالتالي، قدرة خاطفة على الصدم الحسّي، تُوجد في النفس، تلقائياً، حالاً من الطرب.

الطرب، بمفهومه الجمالي القائم بثنائية الخفّة والحركة، هو الطاقة الكامنة في شعر نزار، والدفق الحيوي الذي يجعل من المفردات تتفتّح كالأزهار. وكما أن الموسيقى هي فن اللحظة، لا تُعيد نفسها إلا بوسائل مصطنعة، فإن قارئه، مهما كان مستوى تعليمه، ما دام يُجيد القراءة، لن يُضطرّ لأن يُعيد ما قرأ، لكي يحصل على جرعة الطرب؛ تلك النشوة الشعرية الآنية والرعشة اللغوية الفورية، التي طالما نُظِر لها قِصَراً، على أنها سطحية، هي بعينها العمق الجاذب، الساحر والأخّاذ؛ فنّ إبداع الوجع، إحداث "الآه"، وذكر الله.

يُجيد نزار، كأي خطّاط دمشقي أو نقّاش، أن يُخفّف من كتلة اللغة عبر حسن الصنعة، وكثافة في الصياغة، وفي آنٍ معاً، الاقتصاد في الموارد والأدوات. تقاطعٌ آخر مع الموسيقى بوصفها وسيلة تعبيرية عالية التركيز تقوم على الصوت وحده، والهواء فضاءً له، سواءً أصدر عن ناي وحيد، قيثارة منفردة، أو عن فرقة موسيقية باستطاعة أوركسترالية، شِعره والموسيقى كلاهما فنٌ مينيمالي (تقليلي) بالهندسة وبالطبيعة، لا بالعلامة التجارية، بالجنس الأدبي أو الأسلوب الفني.

هكذا، يتحرر شعره من الأغلال ليس بتحطيمها، وإنما بالتكثّف والتليّن والتقلّص حتى الانسلال من خلالها ("يزمط" بتعبير أهل الشام). لعله، إذن، تجسيدٌ لعلاقة ذاتٍ حرة مبدعة في مدينة محافظة كدمشق، "مغلقة" على حد تعبير شاعر سوري آخر هو أدونيس، تأسست الحياة فيها عبر آلاف السنين على الضوابط والنواهي الاجتماعية والعوائلية، قبل الدينية والسياسية. نظام حماية، تكيّف سكانها بواسطته مع حال مرور دائم، فرضتها الجغرافيا، لكل من قوافل التجارة وجحافل الغزاة الجرارة. 

مدينةٌ من سماتها الحشمة والحياء، ثار عليها نزار من أرض الديار، ليس بكسر زجاج اللغة، كما ذكر في مقدمة أحد كتبه؛ "وإنما مسح له بالماء والصابون" على الطريقة الدمشقية. تقرأ شعره مرةّ واحدة، أو تسمعه صدفة، بصوت كاظم الساهر، فتُحلّق طرباً، تُطلُّ على الشام من عل، كنسر باشق أو حمامة استيتية، أو عبر شاشة موصولة بعدسة موضوعة على متن مروحية مُسيّرة صغيرة، ترى منها السرافيس البيضاء في خضمّ الزحام، ياسميناً منثوراً على الطرقات. 

المساهمون