عند التفكير في كلمة "سينما"، في ظل تأثيرات وباء كورونا، ينتابني شعور شبه وحيد، هو الخوف. الخوف على نهاية هذا الفنّ بالشكل الذي عرفناه لقرنٍ كامل على الأقل.
طيلة السنوات الماضية، تحديداً منذ بداية انتشار منصات المشاهدة المنزلية وإنتاجها لأفلامٍ تُعرض مباشرة على التلفزيون (أو الهاتف حتى) من دون المرور بمرحلة العرض السينمائي، انتشرت آراء منتقدة وغاضبة لأهم المخرجين في العالم حول تأثير هذا التطور التفني على مستقبل السينما. اللحظة الأوضح ربما كانت في 2017، عند عرض فيلم Okja، من إنتاج منصة "نتفليكس"، ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" السينمائي، وإبداء المخرج الأسباني الكبير بيدور ألمودوبار (رئيس لجنة التحكيم حينها) تحفظه الشديد على منافسة الفيلم على "السعفة الذهبية" من دون أن يكون في نية صناعه عرضه على "شاشات كبيرة". بل ذهب أبعد من ذلك، في تصريحٍ غير مسبوق لرئيس لجنة تحكيم، قائلاً إنه "من غير الممكن منحه الجائزة".
هذا "الهاجس" كان منطقياً جداً، فـ"الشاشة الكبيرة" عنصر أصيل في تعريف "فن السينما"؛ وحين ابتكر الأخوان لوميير في أواخر القرن التاسع عشر آلة عرض للصور المتحركة، كان جزءاً من تعريف هذا الاختراع الوليد هو عرضه ضمن قاعة مُغلقة، وعلى شاشة ضخمة، لعددٍ كبير من الناس في نفس الوقت، ومنذ ذلك الحين كانت كلمة "سينما" تُشير إلى عنصرَين متلازمَين: الأفلام وقاعات العرض.
هذا التعريف الذي بقي مُستمراً لأكثر من 115 عاماً، بُنِيَت على أساسه المهرجانات السينمائية، ونجاحات شباك التذاكر الضخمة، وتطور الصناعة وفقا لتغيرات المزاج العام ونوعية الأفلام التي سيُحب الناس أن يخرجوا من بيوتهم لمشاهدتها.
هذا التعريف، المحدد جداً، وإن كان قد تعرض لهزّة مع منصات المُشاهدة وإنتاجاتها الأصلية (التي لا تخلو من المميزات ومساحات الحرية المُتاحة للصناع دون ضغط الأستوديوهات الكبرى)، فقد تلقى ضربة كُبرى عام 2020؛ حيث أغلقت القاعات تماماً بفعلِ الوباء، وأصبحت "أشكال العرض الأخرى" هي الوحيدة المُتاحة.
هذا الأمر ــ تحديداً ــ هو ما يُصيبني بالخوف! ففي مارس/آذار الماضي، مع بداية كورونا، كانت الشركات الكبرى تفكّر في تأجيل عرض الأفلام وجدولتها في وقتٍ لاحق، ما كان سيؤثر حتماً على الصناعة، لكن في النهاية كان يبدو مؤقتاً. غير أن شيئين حدثا في الشهور اللاحقة حولا دفة التفكير إلى عرض الأفلام على الإنترنت مباشرةً:
الأول، هو استمرار الوباء والإغلاق العام من دون تحسّن يُذكر، وحتى حالة التحسّن في معدل الإصابات والوفيات والسيطرة التي حدثت في الصيف، سرعان ما لحقتها "موجة ثانية" من الوباء، أو "نسخة مطوّرة من ڤيروس كورونا" ظهرت في بريطانيا. ورغم الكلام المكثف حول اللقاحات، لم يساعد ذلك في طمأنة البشر على حيواتهم وحيوات أحبائهم.
رغم الكلام المكثف حول اللقاحات، لم يساعد ذلك في طمأنة البشر على حيواتهم وحيوات أحبائهم
الأمر الثاني يخص السينما مباشرةً، وهو عرض فيلم Tenet للمخرج كريستوفر نولان في السينما بعد 6 أشهر من إغلاق القاعات، كمقامرة من نولان (وهو أحد أكبر المُحاربين ضد منصات المشاهدة) ومن شركة "وارنر براذرز". النتيجة كانت كارثية، فالفيلم الذي بلغت تكلفة إنتاجه 250 مليون دولار، لم يحقق منذ عرضه في سبتمبر/أيلول أكثر من 75 مليوناً في الإيرادات المحلية، و304 مليوناً فقط عالمياً. رقم كان، في ظروفٍ عادية، سيتخطى مليار دولار في ظرف أسابيع قليلة. تلك الخسارة أعادت جدل عرض الأفلام في القاعات إلى المربع الصفر، فأعلنت شركات هوليوود الكبرى تأجيل أفلامها لأجلٍ غير مُسمى.
لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، فقد بادرت شبكة "ديزني بلاس"، التابعة لشركة "ديزني" بعرض فيلمها Mulan على منصة مشاهدة مباشرة، وكانت تجربة ناجحة، لتكررها في ديسمبر/كانون الأول الحالي مع فيلم Soul (إنتاج بيكسار) وتعرضه أيضاً على المنصة بالتوازي مع عرضه في السينما. وهو نفس ما قررته شركة "دي سي" وشركة "وارنر براذرز" مع فيلم أضخم هو Wonder Woman 1984، الذي أصبح مُتاحاً للمشاهدة على شبكة HBO MAX قبل عرضه حتى في قاعات السينما.
تلك الضربات المتتالية، وميل الجمهور لمشاهدة الأفلام في المنزل وفي وضعٍ آمن في ظل وباء عالمي، تجعل فكرة السينما، كقاعة مُغلقة وشاشة كبيرة، في أكبر خطر تتعرض له منذ الحرب العالمية الثانية. وحتى في جانبها الفني، فإن التأجيل المتتالي للمهرجانات السينمائية الكبرى وإقامة فاعلياتها الأهم بشكل افتراضي على الإنترنت، كل هذا يشير إلى نهاية ما نعرفه، وبداية شكل مشاهدة وتفاعل جديد، أكثر مُعاصرة، ولكنه مُرعب جداً.
نتيجة عرض Tenet كانت كارثية، فالفيلم الذي بلغت تكلفة إنتاجه 250 مليون دولار، لم يحقق منذ عرضه في سبتمبر/أيلول أكثر من 75 مليوناً في الإيرادات المحلية، و304 مليوناً فقط عالمياً
وبالعودة لخوفي الشخصي، فقد أحببت في هذا العام، ورغم كل ما فيه، أن أحضر مهرجاني الجونة والقاهرة في مصر، وأن أشاهد الأفلام الجديدة في قاعات مُغلقة. حَرصتُ أيضاً على الذهاب لأسبوع خصصته سينما "زاوية" في القاهرة لأفلام المخرج النمساوي مايكل هانِكه، من أجل مشاهدة أفلام ــ سبق لي مشاهدتها ــ على شاشة كبيرة، ظلت تجربة لا يعوّضها شيء، وما أخاف منه تحديداً هو ألا يكون ذلك مُتاحاً في مستقبلٍ قريب.