29 ديسمبر 2020
+ الخط -

"بلَغَت نسبة فتك كورونا الواحد والنصف في المائة، وتمّ اختراع لقاحٍ في أقلّ من عام. هذا ألطف وباء عرفته البشرية، التي تتطلّع الآن إلى ما بعد كورونا".

هذه جملة صحيحة في نهاية عام 2020. هذا كلام بَعديّ استعاديّ، تفلت منه أجواء لحظة بدايات كورونا في مارس/ آذار 2020. الكتابة عن كورونا، من دون ربط ذلك بزمن ولحظة مُحددّين، يجعل المكتوب فضفاضاً.

هذه شذرات جردة حساب الأرباح والخسائر في زمن كورونا، من البداية إلى الآن. هذا نحت الزمن.

في بداية مارس/ آذار، أفلت "المهرجان الوطني للفيلم بطنجة" من الوباء. مرّ في أجواء عادية. حينها، كانت الحكومة سخيّة، ومنعت تجمّع أكثر من ألف شخصٍ. جمع المهرجان 500 شخص. إذاً، لا مُشكلة.

بعدها، بدأ مسلسل الرعب والإغلاق وتأجيل المهرجانات. في الربيع، تعفّنت رئة كلّ فردٍ بسبب تدوير غاز ثاني أوكسيد الكاربون، الذي تجمّع في الكمّامة. في مارس/ آذار، كانت الدول والمجتمعات مرعوبة، وفرضت إغلاقاً غير مسبوق، لن يقبله أحد في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2020، رغم تزايد عدد المُصابين والموتى. في مارس/ آذار نفسه، كان المواطن المغربي يرى الشرطي ويخافه، ولا يرى الفيروس. كان كلّ فردٍ مُطالباً بأن يبقى بعيداً عن الآخرين. يتمرّن على أن يُبقي يديه بعيدتين من وجهه. هذه معجزة أصعب من شقّ موسى للبحر.

فشل المغربيّ في تطبيق النصيحة الوحيدة التي ستُنقذه: "لا تلمس وجهك بيدك". نتيجة لذلك، تشاجر وزير الصحة مع الناطق باسمه، فطرده من مقرّ الوزارة.

هذا يُعطي فكرة عن حجم التوتر الذي عاشه المجتمع.

هذه شذرات جردة حساب الأرباح والخسائر في زمن كورونا، من البداية إلى الآن. هذا نحت الزمن

في بداية انتشار الفيروس، تفشّى في الهواء خطابٌ تقليدي يزعم القضاء عليه بالرقية والأعشاب. ثمّ تلاشى الخطاب، واختفى أصحابه. اتّضح أنّ الكحول أكثر فعالية من زيت الحبّة السوداء. الدواء سيأتي من أميركا الحداثية فقط، أمّا مجتمعات القبلية والطائفية والكهنة، فمُستنزفة بصراعاتها الهوياتيّة الميكروسكوبية، التي تجري في الظلّ، فتتعفّن. هنا، ربما يكون كورونا عاملَ تحديثٍ اجتماعي وثقافي في مجتمعات الشعوذة. من هذا المنظور، ربما يكون الوباء فرصةً لا كارثة.

أُصيب الرئيس دونالد ترامب بالفيروس، فهبطت الأسواق. غادر الرئيس المستشفى، فتعافت الأسواق. فرح المضاربون. هذا أعظم رئيس مُنتِج للصُوَر في تاريخ أميركا. قدّم يومياً للصحف ما تنشره من تصريحات عنيفة، وصُوَر فنية هائلة جديدة تطرد الملل.

سينما ودراما
التحديثات الحية

مرّ تيار الزمن. تمّ التعايش مع الفيروس، حرصاً على الحركة التجارية المقدّسة. في عيد الأضحى، أعلن المغاربة: "اللحم أولاً". بعد ذلك، نتحدّث عن الفيروس، فيتضاعف عدد المصابين. بعد العيد، استقبل أطباء المعدة آلاف المرضى الذين افترسوا لحم القربان.

كورونا يقضي على الروتين، ويصنع الدراما. كلّ ما كان حقّاً وسهلاً وروتيناً، صار حلماً. أُلغيت المهرجانات، فزادت أهمية المنصّات. شخصياً، كنتُ معترضاً على الكتابة عن فيلمٍ معروضٍ على منصّة، ثم انخرطت في ثلاث منصّات دفعةً واحدة. حصلت على مادة فيلمية رهيبة، مكّنتني من مُشاهدة أعمال أورسون ويلز، واكتشاف أنّ سمعة المخرج أكبر من إنجازه.

تابعتُ بعض المهرجانات المغربية الافتراضية. أفلامها تبدو فقيرة وبائسة، مُقارنةً بأفلام المنصّات، القوية بالصورة والصوت. كنتُ أشاهد الأفلام في سيارتي، المركونة قبالة البحر. السيارة امتياز في زمن الحجْر. تسمح بالتنقّل والحماية من العدوى. معي حاسوبٌ، فيه بطارية تصمد سبع ساعات، وفيه أفلام لا نهاية لها، وبعيداً عن الضجيج وكورونا. السيارة سيّدة الحداثة.

أحدث الوباء ارتباكاً كبيراً في مهن السينما، تصويراً وعروضاً ومُشاهدةً وصالاتٍ ومهرجانات. لكنْ، بالنسبة إلى الناقد، هذا غير مُضرّ، بفضل المنصّات المتعدّدة. حاولتُ الاستفادة من الظروف المستجدة. كتبتُ عن أفلامٍ في الأسبوع نفسه لإطلاقها، ثم كتبَتْ عنها "نيويورك تايمز". وجدت أنّ مقالاتٍ لي أقوى. هذا شجّعني على الكتابة عن أفلامٍ جديدة. أكره الكتابة عن فيلمٍ بعد ثلاثين عاما على صدوره.

أحدث الوباء ارتباكاً كبيراً في مهن السينما، تصويراً وعروضاً ومُشاهدةً وصالاتٍ ومهرجانات

كثيرون يعتبرون عام 2020 زمناً مهدوراً. شخصياً، أعتبره عام إنجاز. كتبتُ عشرات المقالات عن الأفلام. حصلتُ على أربعة أشهر عطلة من وظيفتي. نمتُ بعمقٍ غير مسبوق. استرحتُ جيداً. أنهيتُ بحث دكتوراه في السرديّات المقارنة في القرن الثالث عشر الميلادي، قرن الأولياء والخيال والإيمان والحروب الصليبية. ولتعميق معرفتي بالسياق الاجتماعي، شاهدتُ مسلسلات كثيرة، تعكس ثقافة العصر، الاجتماعية والدينية. منها: Knightfall (إنجاز عام 2017)، وLa Cathedrale De La Mer (إنجاز عام 2018)، و"ماركو بولو" (2014). لهذه المسلسلات، غالباً، أكثر من مخرج. مسلسلات تمزج التوثيق بالتخييل، وتُقدّم معلوماتٍ رهيبة للعين والأذن. المسلسلات أكثر ثراء للتسلية في حجر كورونا.

فجأة، حلّت دراما الأفلام في حياتي. تعرّض الجسدُ لخطرٍ هائل، بتمركزه في الرئة. قَلّ الأوكسيجين، وأصيبت كلّ حركات الجسد بزلزال. حينها، صار الجسد لا العقل سيّد جدول الأعمال. هنا، تسبق الغريزةُ الإرادةَ. الجسد جهاز أساسيّ للمقاومة. رَدّ لي جسدي جميل العناية به، ولم يخذلني، لأنّي لم أُنهكه سابقاً. الجسد يعطي معلومات حقيقية عن صاحبه. ما يقوله اللسان مجرّد ثرثرة.

فجأة، حلّت دراما الأفلام في حياتي. تعرّض الجسدُ لخطرٍ هائل، بتمركزه في الرئة. قَلّ الأوكسيجين، وأصيبت كلّ حركات الجسد بزلزال

بعد الفحص والنتيجة الموجبة المؤكِّدة للإصابة بكوفيد 19، وبدء تناول الدواء الذي قرّره طبيب مختصّ، أجلس في صفٍّ للفحص لدى طبيب عمومي. شعرتُ بانقباضِ تنفّس في الأيام الثلاثة الأولى. بعدها، ومع تناول الدواء، زال الانقباض الصدريّ.

عندما أُصبتُ بكورونا، كانت المعلومات عن المرض زائدة. لم تعد الحكومة تحجز المصابين، لكنّ طقوس الموت عاجلة، ولا تنتظر برهنة وتحليلاً. حين مات الشاعر والصحافي حكيم عنكر، شعرتُ بالرعب.

عندما يهاجمك كوفيد 19، يكون السؤال الأول: هل ستُنتج رئتاك ما يكفي من الأوكسيجين، ليدور في دمك؟ لأنّه إنْ خانتك رئتاك وقَلّ الأوكسيجين في الدم، تكون في الطريق إلى المقبرة. هنا، يُطرح سؤال أهمّ، قبل بلوغ المقبرة.

أفكّر في المقالات السينمائية التي لم أنته من كتابتها، وفي السيناريوهات التي لم أصوّرها، وفي القصص التي أنهيتها ولم أنشرها.

لا مشكلة.

لم يسبق أنْ كنتُ على مقربة من الموت كما الآن. لكنْ، كان قلقي على أولادي أشدّ من خوفي من الموت. من هنا، نبع سؤال: ما معنى حياتي؟ ما الذي يهمّني بعد موتي؟ الجواب: أنْ يعيش أولادي في ظروفٍ مريحة. هذا جهّزته جيداً. منحني هذا الاطمئنان طاقةً هائلة.

الآن، قبل بدء عام 2021، نسبة الأوكسيجين في الدم جيّدة. لا أزال حيّاً. يبدو أنّ هناك وقتاً للأفلام والمهرجانات.

المساهمون