الشخصيّ في سؤال الحصاد مربك. مهنياً، يبدو مُبرّراً. لكنّ العام أشدّ إرباكاً ومدعاة إلى التأمّل في حال العالم، لحظة مواجهته القاسية لشبح الموت والفناء. يزيح الخوف من حضورهما الفعليّ عديدَ الأفكار والأسئلة الفرعية، ويقترح بعنادٍ صوغ آخر، أشدّ صلة بالحياة. مثلاً: كيف عشت عام كورونا؟ من "الأشمل" ربما، يُمكن الانتقال بسهولة إلى ضفاف روافد مهنية واحترافية أصغر، بها يُمكن معاينة كيف يتدبّر الناقد والكاتب في السينما أموره المهنية، في عامٍ شحيح. سؤال السينما، بوصفها حقلاً إبداعياً، تأثّر بشدّة بالواقع الجديد، ويأتي في سياق الأجوبة.
حتّى الربع الأول من عام 2020، كانت الحياة تسير بشكلٍ عادي. الأخبار تَتكاثر عن مرضٍ ينتشر في الصين. أوروبا، التي أعيش في أحد بلدانها (السويد) متراخية، بقوّة إحساسها المتغطرس بـ"آسيوية" الحدث، وبُعدِه عنها. دورة "مهرجان غوتنبرغ السينمائي الـ43" تُعقَد. حضوره يُثري سينمائياً، لخصوصية نادرة فيه، كونه المهرجان الشمالي الأكثر اهتماماً بنتاج تلك المنطقة. بعده بأسابيع قليلة، كنّا في برلين. الـ"برليناله 2020" وفيرة ومساحة رحبة، تجدّدت فيها لقاءات شخصية مع نقّادٍ عرب وأصدقاء. صُحبة ومُشاهدة عروض ونقاشات ما بعد منتصف الليل، أَنْسَت الجميع وجود "وحش" يقف على الأبواب، متربّصاً بالعالم كلّه.
شرور الوباء وصلت إلى الديار. في الأول من مارس/ آذار 2020، بدأ الانقلاب العظيم في حياة البشرية. بلدان أغلقت حدودها، وتعطّلت الحياة السوية فيها. مهرجانات سينمائية مهمّة تأجّلت، ثم توقّفت. عروض الأفلام في الصالات تقلّصت، وبعد حين اختفت. هنا، برز سؤال مهني: كيف يتدبّر الناقد السينمائي أمور الكتابة، في ظلّ مُتغيّر هائل الكبر، قطع جزءاً مهمّاً من مصادر إرواء حقوله الكتابية والمعرفية؟ في هذه الحالة، يلعب المكان دوراً تعويضياً مهمّاً. الإقامة في بلد أوروبي توفّر بدائل، وتُقلّل من أضرار حلول موسم مهرجاني "شحيح" المحصول. المهنة واشتراطاتها ومتطلّبات منصّات استكتاب الناقد السينمائي، وتشبثّه بمصادر عيشه، كلّها محفّزات لدوام التواصل. الاشتراك الشخصي في منصّات العروض السينمائية الخاصة، وفي غيرها، يسبق الجائحة. عروضها في زمن كورونا يعوّض جزءاً من غياب صالات العرض، رغم أن الكثير منها، خاصة المعنيّة بالفيلم المستقلّ، لم تتراخَ أو تتعطّل، في السويد على الأقلّ. استُحدثت أشكالٌ جديدة من التواصل مع النقّاد عن بُعد. هكذا، فعلت أيضاً صالات العرض التجارية الأوروبية مع جمهورها، عبر إصدارها بطاقات اشتراك مُشاهدة الأفلام من المنزل. خزينها ليس قليلاً، يمدّ الناقد ببعض الجديد.
أشكال المُشاهدة الجماعية في السينما لم تكن يوماً جماعية
المكوث في السويد، والتفاعل مع مشهدها السينمائي، يجنّبان الناقد نقصَ مخزونِ خامات الكتابة: أفلامٌ وبعضُ مهرجاناتٍ وفعاليات أخرى مُصاحِبة. في السويد، حتّى فترة متأخّرة، ظلّت العروض السينمائية مستمرّة. تمّ تقليصها تدريجياً. العروض الصحافية الخاصة لم تنقطع. في بداية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، انعقدت الدورة العاشرة لـ"مهرجان السينما العربية في مالمو". عدد الحضور في القاعات تحدّد بخمسين شخصاً، لكنْ ما رافقها من فعاليات ولقاءات شخصية أشبعت بعض حاجةٍ إلى تواصلٍ سينمائي، انقطع من دون سابق تحضير. الحضور العربي فيه، هذا العام، أغلبيته من دول أوروبية. مع ذلك، سدّ شاغراً. اللقاءات الشخصية اكتسبت حميمية أكثر، والشغف بالسينما وديمومتها تجلّى بسطوعٍ في حماسة المشاركين في سوقه، وتسابقهم إلى نيل دعم منصّاته، ليُكمِلوا بها أحلامهم السينمائية.
في مالمو، عَرض صديقي المخرج العراقي قتيبة الجنابي لي نسخةً شبه نهائية من فيلمه الجديد. لن أنسى فرحته بانطباعاتي عنه، وحماسته لإكماله، رغم عوائق الجائحة. شغف السينمائي العربي لم يضمر. تلمّست ذلك من خلال متابعتي لمهرجاني "الجونة" و"القاهرة". لم أحضرهما بسبب كورونا وموانعها، لكنّي تيّقنت أنّ الرغبة في العمل لا يُعيقها وباءٌ.
المشهد السينمائي العالمي أوجعته طعنات كورونا. الإنتاج العالمي الكبير (هوليوود بشكل خاص) أشدّ المتأثّرين بها. لكنّ المعروض منه في المهرجانات العالمية ـ التي قرّرت المضي في مسيرتها، وأكثرها اختار التفاعل مع الجمهور ومنظّمي المهرجانات والنقّاد والصحافيين عن بُعد (أونلاين) ـ ليس بقليلٍ. متابعة تلك المهرجانات يزيد من إحساس الناقد بحيوية حضور السينما، وإمكانية التواصل معها، حتّى في أكثر الأزمنة شدّة. أفلام "كانّ" و"فينيسيا" و"تورنتو" و"إدفا" (أمستردام الوثائقي الدولي) وغيرها، وفّرت زاداً مهمّاً للناقد السينمائي المُشترك فيها. تُجلي اختياراتها حضوراً سينمائياً عربياً مهماً، ربما تَفوّقت أهميته سنوات كثيرة قبل الجائحة. عروض أقسام "الجونة" و"القاهرة" وأفلام كثيرة أغلبه مقبلٌ من مهرجانات "أونلاين".
مُشاهدة عن بُعد تُغني الناقد عن الحضور إلى موقع إقامتها، لكنّها تحرمه من تفاعل ومشاركة فيها لا يقلان أهمية عن الأفلام نفسها. هذا الحال أثار نقاشاً حول أشكال المُشاهدة الفيلمية الجديدة، المتّسقة مع تَغيُّرات كونية سبقت كورونا، وأحدثت في عالم صناعة وسائط العرض الإلكتروني، و"فورمات" شاشاته، جدلاً زادت وتيرته في زمن اجتياح الوباء.
لي رأي في هذا: أشكال المُشاهدة الجماعية، التي توصف غالباً برومانسيةٍ، لم تكن يوماً جماعية. كلّ مُشاهدةٍ فرديةٌ أساساً. خاصّةٌ بمتفرّج واحد، يشترك "مكانياً" مع آخرين. أما رؤيته الفيلم، فنابعةٌ من داخله وحده. لم يُجبرنا كورونا على الذهاب إلى منصّات العروض التجارية العملاقة. هذا جارٍ منذ فترة. أظنّ الأغلبية ماضية فيه. البعض اعتماده عليه أكثر، بسبب قلّة المعروض من أفلامٍ عالمية جديدة في محل إقامته. البعض ـ أصبحتُ واحداً منهم في زمن "الحصار" ـ أعاد من خلالها ترميم معارفه. راجعتُ، بفضل "يوتيوب" ومنصّات عرض مختصّة، حزمات سينمائية، كالفنلندية والبلطيقية. تأمّلتُ بمراجعتي اتجاهات طليعية، شكّلت علامات في تاريخ السينما، كالبرازيلية. قرأتُ كتباً عن السينما، واستعنتُ بمخزون مكتبات سويدية عملاقة. تأكّد لي مجدّداً، وبفعل "الحبس" المنزلي شبه الإجباري، أنّ التلفزيون السويدي، لمن يريد متابعة التُحف الوثائقية، من بين الأهمّ في العالم.