استمع إلى الملخص
- قصائد أبي شقرا كانت تتميز بالغرابة والابتعاد عن القضايا التقليدية، حيث وجدت لنفسها فضاءً خاصًا بعيدًا عن النزاعات الأدبية، وكأنها غناء مرح وخفيف.
- شعره كان بلا قضية واضحة، بل كان غناءً ولعبًا بلغة بسيطة ومباشرة، بعيدًا عن الفصاحة الموروثة والخطابية التقليدية، مما أضفى عليه طابعًا فريدًا.
أزمة الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا الصحّية مؤخّراً، ثمّ رحيله أمس، أعادا طرح اسمه وتجربته اللذين لم يخرجا من السجال، إلّا بعد ما تعب المساجلون، وتوقّف السجال وإن بقي معلّقاً. بقي شعره مثار جدل لم يصل إلى حُكم، لقد أحرج متلقّيه الذين لم ينتهوا إلى قرار، ولم يستقرّوا على خلاصة أو خلاصات.
ما كان شعرُ شوقي، حتّى في حينه، طرفاً في الجدال الذي ثار مع مجلّة "شعر". لم يكن طرفاً إذ كان مستصعباً أن نُحدّد موقعه فيه، أن نُدرجه بسهولة في مخاضه العامّ. الأرجح أنّ اختلافه، وهو واسع، لم يكن ليندغم في الصراع الذي قام آنذاك. كان اختلافُه بعيداً وكبيراً، لكن إلى الحدّ الذي يصعب فيه تعيينه، أو ضمّه إلى المعركة القائمة. لم يكُن له ما يجعله فارساً فيها، أي أنّ ميدانه لم يكن في صميمها.
لنقُل إنّ أبي شقرا كان غريباً إلى الحدّ الذي لا نعود معه قادرين على عيار هذه الغرابة، أو قادرين على ردّها إلى جوّ عام أو إلى سجال عامّ. كان غريباً، وذهب في هذه الغرابة إلى الحدّ الذي باتت معه صعبة على التلقّي، أو التمييز والمقابلة والمقارنة. كان غريباً إلى الحدّ الذي صارت فيه هذه الغرابة غريبةً بحدّ ذاتها، غريبة إلى الحدّ الذي لا يمكن فيه تعيينها، أو الوقوف عندها.
كان غير معنيّ بالقصيدة القائمة آنذاك، وكأنّه يستمدّ قصيدته من لغة أُخرى
بدأت هذه الغرابة لعبةً ليس من السهل ملاحقتها، بل وليس من السهل الاحتفاء بها، أو أخذها بجدّ، أو إيجاد معادل نقدي أو نظري لها، أو ضمّها إلى المعركة أو الميدان. كانت فرعية، بل ومستهجنةً وبعيدة ونائية، كأنّما تفد من غير مكان، تفد من حيث لا أصل لها ولا مقوّم ولا ساحة.
لنقُل إنّ هذه القصيدة كسبت قوامها، وكأنّها لم تنتزعه أو تستلّه أو تردّه إلى معركة. لقد وجدته في حين وجدت نفسها. لم تحتج إلى مناظرة أو إلى إعلان نقدي أو خطاب خاصّ، لم تخرج من نقد معلن ومن مقدّمة نظرية. لم تكن، في ما يبدو، بحاجة إلى ذلك. لقد بدأت بعد المعركة، بدأت من حيث قفزت عن النزاع ووجدت نفسها غير معنيّة به بقدر ما هي الآن في أرض خالية منه، في ما يتعدّاه ويتّسع عنه ويحجبه بالتالي، في تجربة ليست من إرثه، وليست محصورة في الردّ على هذا الإرث. ليست لتقف عند ذلك.
كانت القصيدة الأبي شقرية غريبة عن هذه الغرابة، إذا جاز القول. حتى في شعره التفعيلي، هو الذي كرّس لقصيدة التفعيلة غير ديوان واحد، كان أبي شقرا في ميدان آخر. كان غير معنيّ بالقصيدة القائمة آنذاك، وكأنّه يستمدّ قصيدته من لغة أُخرى، أو يصنعها من فضاء وإيقاع واحتفال ثان. الآن يمكننا، ولو باختصار أن نقول إنّ القصيدة الأبي شقرية شيء آخر في الشعر العربي. بل بدأت هكذا وكأنّه لم تتعب لتصل إليه، كأنّما وجدته من اللحظة الأُولى. غناء أبي شقرا المرح الخفيف اللاعب هو غير الغناء العربي، ليست فيه حسرته ورثائيته وخطابيته ودراماتيكيته.
إنّه شعر بلا قضية، بل هذا الخلوّ مطبوع فيه، في أصله وأساسه. إنّه غناء آخر ولعب آخر، إنّه قصيدة تتفكّه وتتنزّه وتحكي. لسنا نجد في القصيدة الحديثة هذه المجّانية التي وردت من اليوميات، بقدر ما وردت من هذه الغرابة، من حكيها وخيالها، يسعنا لذلك أن نسمّيها الغرابة الغريبة، ومن دون أن نغادر ذلك، يصحّ أن نسمّيها الغرابة الأليفة، ألفة تأتي من لغة تحكي من دون أن تخطب، تجد لنفسها غناءها الذي هو ردّ على فصاحة موروثة، وإجراء الكلام خارجها. هكذا تنزل القصيدة عن منصّة الخطابة، بل عن كلّ منصّة لتُواصل خارج ذلك حكيها ولعبها.
* شاعر وروائي من لبنان