"جنزير" في "القبّة الشمسية".. من يناير 2011 إلى عالم يغرقه الماء

26 يناير 2022
الفنّان المصري جنزير
+ الخط -

من المستقبل البعيد تبدأ أحداث سلسلة القصص المصوَّرة، "القبّة الشمسية"، للفنان المصري محمد فهمي، المعروف باسم جنزير. مستقبلٌ يصعب تعيين المسافة بينه وبين لحظتنا الراهنة؛ فالصفحةُ الأُولى من الجزء الأوّل تحمل إشارة إلى عام 949 بعد الطوفان. متى حدث هذا الطوفان؟ ليس ذلك واضحاً. ربما حدث في زمننا، وربما يحدث غداً أو بعد ثلاثين عاماً، فنحن بالفعل في لحظة انتظار الطوفان والانهيار الكبير، مع ذوبان جليد القطبيَين وارتفاع مستوى مياه المحيطات.

لذلك، وعلى الرغم من طابعها المستقبلي، تُمسك السلسة بإيقاع لحظتنا، وبخوفنا من الغد المهدَّد بالفَناء، وبالواقع الذي دهسه حذاء اليأس، وبالأمنيات والأحلام بنهوض شعلة المقاومة بعد أن انطفأت في أيدينا. هذا هو جوهر The solar grid؛ وهو العنوان الإنكليزي الأصلي الذي تصدر به هذه السلسلة.


أثَر الثورة

برز اسمُ جنزير (1982) قبل ثورة يناير 2011، ضمن موجة من الفنّانين والمصمّمين الذين أعادوا صياغة المشهد البصري في مصر بعد عام 2000. تميّزت هذه الموجة بالاعتماد المكثّف على برامج التصميم الإلكتروني، وبالتأثُّر بتصميمات "البوب آرت" الغربية، والسعي لخلق تصوّرات لـ"بوب آرت" محلّي.

ترافَق ذلك مع صعود جيل من السياسيّين ورجال الأعمال، أبناء زمن ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر، وتكاثُر المُولات التجارية، وظهور "الكافيهات" باعتبارها صيغةَ "بوب آرت" للمقهى. كان عالم الإنترنت يتطلّب إنتاج تصميمات وصور تعكس الخصوصية المحلّية، وتُناسب، في الوقت نفسه، العرضَ العالمي وذوق الفئات الجديدة.

في واحدٍ من معارضه المبكّرة قبل الثورة، قدّم جنزير سلسلة من البورتريهات لأبطال خارقين محلّيّين: عاملُ نظافة يمتلك قدرة خارقة على حمل أثقل الأوزان، أو "مكوجي" يتحوّل إلى رجل خارق. عُرضت تلك البورتريهات في مطعم فاخر يُطلّ على نيل الزمالك، لتُقدّم معادلاً بصريّاً يناسب الذائقة الجديدة، ويجعلها ترى واقعها المحلّي عبر "فلتر" الثقافة الأميركية.

بعد تنحّي حسني مبارك ببضعة أشهر، شاهد المارّة في الشارع الذي يقع فيه ذلك المطعم عملَ غرافيتي شهيراً لجنزير، يضمُّ بورتريهات لعدد من وزراء مبارك السابقين، الذين كانوا أحراراً وقتها، وقد كتب فوقها: "الشعب يريد محاكمة حبايب النظام". احتفظَ الفنّانُ بالأسلوب التقني في رسم البورتريهات الذي طوّره في مشروع الأبطال الخارقين، وأضاف إليه طبقات جديدة بعد الثورة، ليظهر في سلسلة بورتريهات انتشرت على محطّات المترو، وهذه المرّة لشهداء ثورة يناير، وبجوار كلّ بورتريه اسم الشخص وعمره.

تتخيّل السلسلةُ عالماً مستقبلياً تتحقّق فيه المخاوف البيئية

يُجسّد الفارقُ بين العملين أثَر ثورة يناير عليه وعلى أعماله: حرّرت الثورةُ الفنّان مثلما حرّرت عشرات من فنّاني جيله من أَسْر قاعات الفنّ المغلقة، أو زاوية الديكور في المطعم الفاخر. لكنّ جنزير كان من أكثر الأسماء نشاطاً؛ إذ لم يتوقّف عن وضع بصمته في الشوارع، في تصميمات المطبوعات، في ملصقات صغيرة الحجم تُوزَّع في المظاهرات. تميّزَت أعماله بجرأة طرحها السياسي، وبعنف ثيمتها البصرية. أشهر هذه الأعمال - والذي تسبّب في إلقاء القبض عليه - هو "قناع الحرّية" (2012)، والذي لم يكن صادماً على مستوى رسالته السياسية فحسب، بل على مستوى طرحه الفنّي. كان غريباً عن معظم تصميمات الثورة، ويحمل ثيمات واضحة من عوالم السادومازوخية.


الخروج من مصر

خرج جنزير من مصر مع العودة العنيفة والملطّخة بالمذابح للحُكم العسكري. يقول إنّه لم يكن يتوقّع أن يطول غيابه عنها. أقصى تقدير كان أن يستمر لعامين، لكنّه تجاوز الآن عامه السادس. في البداية، طُلب منه، وبشكل صريح، أن يُعيد إنتاج ما كان يفعله في مصر ليُعرَض في نيويورك، لكنّ جنزير، بدلاً من ذلك، وضعَ النظام الأميركي هدفاً لمعرضه الأوّل في الولايات المتّحدة، حيث قدّم طرحاً نقدياً للنظام السياسي والحياة الأميركية.

القبة الشمسية

يري جنزير أنّ على الفنّان - على الأقلّ في حالته الشخصية - أن يكون على اتّصال بمحيطه الجغرافي وبلحظته الزمنية. واليوم، يضع على موقعه الشخصي مجموعة من التنبيهات للصحافيّين والباحثين، أبرزها اعتذاره مسبَقاً عن تلبية أيّة طلبات بالحديث عن الثورة، أو المشهد الفنّي في مصر. والسبب أنه تحدّث كثيراً عن ذلك، ولم يعُد يشعر أن لديه جديداً يقوله بشأنهما، كما أنه غادر مصر منذ سنوات، ولم يعُد على اتّصال مباشر بالمشهد الفنّي فيها.

لا تردُّد لدى جنزير. هو مثالٌ لمن اتّبع نصيحة "لا تنظر خلفك فتتحوّل عموداً من المِلح". لذا، نظر إلى المستقبل، فجاء مشروع "القبّة الشمسية"، كما يفضّل ترجمةَ عنوانه الذي جاء بالإنكليزية: The solar grid (الشبكة الشمسية).


عالَم من مياه

يبدأ العددُ الأول من سلسة "القبّة الشمسية" بمشهد لطفلين يسيران وسط خرائب وركام من النفايات، يبحثان عمّا يمكن تدويره أو بيعه لتجّار "الأنتيكا" وقطع التكنولوجيا القديمة. فجأةً، تلمع مجموعة مصابيح في السماء، فيسارع الولدان إلى ارتداء بدلة وقاية، والاختباء قبل أن تلمع في السماء آلاف الشموس الصغيرة بأضوائها الحارقة.

على امتداد خمسة أعداد صدرت حتّى الآن من السلسلة، نتنقل بين عدّة قصص تحدث في أماكن متعدّدة على سطح كوكب الأرض الغارق في الفيضان، وذلك على امتداد زمني يصل إلى ألف عام. أبعاد هذا العالم وتفاصيله لم تتّضح كاملة بعدُ؛ فالمتاح للقراءة، حتى الآن، يُمثّل نصف السلسلة التي تتكوّن من عشرة أعداد (من المنتظر أن تصدر الأعداد الخمسة الأُخرى هذا العام) تشكّل في مجموعها روايةً مصوّرة.

قصصٌ تتأرجح بين اليأس والأمل والوعد المتجدّد بالثورة

ما نعرفه، في خطوط عريضة، هو أنّ النبوءة المنتظَرة تحقّقت: ذاب جليد القطب الشمالي، ارتفع منسوب المياه وغرقت مدن كاملة، بينما تحوّلت أُخرى إلى مدن نهريّة يتجوّل فيها الناس بالمراكب أو فوق أطواف بدائية الصنع، ثم ظهر مشروع القبّة الشمسية، وهو شبكة من الأقمار الصناعية تُحيط بكوكب الأرض، تمتصّ الطاقة من الشمس أو من مصدر مجهول آخر، ثم تشتعل لبضع دقائق، عدّة مرّات على مدار اليوم. الغرض من ذلك هو تسليط الحرارة على الأماكن المبتلّة من أجل تجفيفها وتقليل منسوب المياه الذي يغمر اليابسة. نعرف أيضاً أن مشروع القبّة الشمسية هو واحدٌ من مشاريع تحالُفٍ للنظام العالمي الجديد.

قبل اكتمال إطلاقه، وفوق طوف يسير في شوارع القاهرة الغارقة، تتوقّف فتاة في "شارع 26 يوليو"، حيث يقع مقرّ "دار القضاء العالي" الذي تحوّل إلى أطلال، لتُعلّق على الجدران ملصقاً يدعو لمقاومة المشروع. ودون أن نحرق الأحداث، سنعلم أنها ستفشل، لأنه، بعد حوالي 300 عام، ستُصبح القبّة الشمسية واقع الحياة الجديدة على الأرض، وسيقضي البشر وقت اشتعالها في منازلهم ومخابئهم، أو يرتدون بدلات الوقاية التي أصبح الجميع يتحرّك بها. أمّا الأغنياء ومَن استطاعوا النجاة، فقد انتقلوا إلى مستعمرة المرّيخ، وهناك ثمّة مشروع جديد: بالونات ترتفع في الهواء وتلتقط بخار الماء من السماء، لتخزّنه ثم تُعيد توزيعه في المناطق الأكثر احتياجاً. لكن حقيقة ما يحدث أنّ الماء يُسرق إلى المريخ، ومرّة ثانية يقود صحافي مغامرةَ تحدّي وفضح هذه السرقة، مستلهماً تجارب الثورات المطمورة والمنسية، ومرّةً أُخرى يفشل، أو ربّما لا نعرف ما يجري.

في كلّ الخطوط الدرامية في العمل، هناك هذا التأرجح بين اليأس والأمل، والوعد المتجدّد بوجود ميتافيزيقا للثورة والتمرّد قادرٍ على إيقاظ الشعلة من وسط ركام النفايات الذي يُغرق حياة الأطفال، أبطال العمل.


بحثاً عن الاستقلالية

يرى جنزير، الذي يعيش حالياً في مدينة هيوستن بولاية تكساس بعد أن تنقّل بين عدّة ولايات أميركية منذ وصوله إليها قبل بضع سنوات، أنَّ على الفنان أنْ "يفتح عينيه على محيطه ويتفاعل مع مكان إقامته". انطلاقاً من ذلك، كتبَ "القبّةَ الشمسية" (الصورة لغلاف الجزء الأوّل منها) بالإنكليزية التي كان يستخدمُها، إلى جانب العربية، في أعماله بمصر التي قدّم فيها عدةّ تجارُب في القصص المصوَّرة بالعربية.

القبة الشمسية - القسم الثقافي
من رسومات السلسلة

عرضت أعمال الفنّان في عدد من صالات العرض والمتاحف في الولايات المتّحدة وأوروبا، كما أنجز جداريّات وأعمالَ غرافيتي في عدّة مدن. لكنّ صناعة النشر - ولا سيّما نشر القصص المصوَّرة - تسير بقواعد مختلفة؛ ففي منظومة النشر كثيرٌ من حرّاس البوابات، ومن الصعب أن تلتفت دُور النشر الكبرى لعملك إذا لم يصلها عبر وكيل أدبي تتعامل معه. يقول جنزير إنّه حاول أكثر من مرّة التعامُل مع وكلاء أدبيّين، لكنّ لدى هؤلاء، أحياناً، تدخّلات أو اقتراحات على العمل لا تتماشى مع تصوّراته. لذا كان خَياره نشر السلسلة بشكل مستقلّ، وتسويقُها عبر مواقع متخصّصة في نشر وتوزيع المطبوعات الفنية والقصص المصوَّرة. 

على الرغم من ذلك، عرفت السلسلة احتفاءً نقدياً في عدد من الصحف والمجلّات الأميركية تَرافق مع نموّ غير متوقّع لقاعدة القرّاء. يقول جنزير إنّ السلسلة أصبحَت تُدرّ عائداً مادّياً معقولاً لتغطية الوقت والجهد الذي يقضيه للعمل عليها.

هذا النمط الإنتاجي لسلسة "القبّة الشمسية" يشكّل جزءاً من جوهر العمل، الذي يمكن تلخيصه بأنه محاولة لالتقاط عطر المقاومة المهزومة، وهو العطر الذي لا يمكن التقاطه إلّا عبر سلسلة قصص مصوَّرة منشورة بشكل مستقلّ، ينمو جمهورها كقبيلة سِرّية.


* كاتب من مصر

المساهمون