ولكن ما جدوى الاستقلال؟
يثير التفكير في هذا السؤال، فضلاً عن طرحه بصوت عالٍ؛ استهجاناً يتراوح بين الابتسامة الساخرة، والاتهام بالخيانة.
بيد أنه لا نكران في وجود أصوات بدأت تعلن، على اختلاف مستويات وجاهة الطرح وغاياته، عن جدوى الاستقلالات، وهم يرون "دولهم الوطنية"، مجرّد مسيرة طويلة من الفشل الذريع على كافة المستويات. ومع تشديد هذه الوطنيات (القومية-العسكرية) على تأسيس شرعيتها على "مقاومة الاستعمار"؛ بات هذا الأخير نفسه حاضراً في معرض المقارنة مع النظام الوطني، لا بوصفه شريراً يمثّل حقبة تاريخية ظالمة ومظلمة فقط، بل بوصفه "نظاماً" هو الآخر، له ما له، وعليه ما عليه. وعلى أُسس هذه الثنائية، يُعاد اليوم التفكير في معنى الاستقلال.
هذا بالطبع، لا يعني ضمور الحسّ الوطني لدى عامة المواطنين، ولا يعني ما قد يعتبره البعض "حنيناً" لماض هو متخيّل بالضرورة؛ بقدر ما يعني أنّ سردية الاستقلال كحدث ملحمي باتت محلّ نظر، على الأقل، كمقاومة للأنظمة السلطوية القمعية، التي لاكت هذه الشعارات دون سأَم، حتى وإن تناقضت بشكل صارخ مع سياساتها الداخلية والخارجية.
في كتابه: "الانهيار المديد: الخلفية التاريخية لانتفاضات الشرق الأوسط العربي"، سكّ حازم صاغية مصطلح "الضديّة"، كوصف لآلية اشتغال العقل السياسي والثقافي في المنطقة العربية. وهو يعني بتبسيط مخل، وجود ثقافة جمعية، تضم العامة والنخب المثقفة بكافة تلاوينها، تقوم على العداء "البَدَهي" للغرب، وقلة الحفول بالقيم الحقوقية والديمقراطية، وبناء دول حقيقية، تهتم بمعالجة الشؤون الحياتية لمواطنيها.
وهذا ما يعني أنّ "التعددية الفكرية" في تاريخنا السياسي، ليست إلا اختلافات في هامش الهامش، لا على المتن العام، في الرؤى والممارسات والغايات.
وهذه الضديّة، وفقاً لصاغية، إنما نجمت بسبب "النشأة الملتوية" للدول العربية في حقبة الاستقلال. حيث غابت أسئلة الوطن والمواطنة، وعُزِف عن التأسيس لمجتمع حديث يستبدل الولاءات الضيّقة والخطِرة كالدين والطائفة والقبيلة، بولاءات وطنية جامعة. ذلك أنّ الحداثة بخطوطها العريضة، لم تأتنا سوى مع "الاستعمار"، فكان النَفَسُ النضاليّ المهيمن هو القاطرة التي جرّت وراءها تنظيمات وحركات وثورات وانقلابات، أكدت جميعها على نيل "الاستقلال الحقيقي"، والعمل على تحقيق "الوحدة"، وسحق أذيال الاستعمار، مع وعود ضبابية بالمجد والعلياء، نبلغه بفضل "إرادة الجماهير" و"تلاحم قواها الحيّة" سواء من المحيط إلى الخليج أو من طنجة إلى جاكرتا!
حتى شعار "الحرية" الذي ناله الابتذال من كثرة ما تناولته الألسنة والأقلام؛ لم يعنِ سوى حرية "الشعب" في تولي شؤونه، لا حرية "أفراد" هذا الشعب، في الرأي والفكر والمعتقد. إنها حرية بدائية، لا تتجاوز ما كانت تُرمز به من تحرّر العصفور من القفص، أو السجين من الأغلال.
حتى شعار "الحرية" الذي ناله الابتذال من كثرة ما تناولته الألسنة والأقلام؛ لم يعنِ سوى حرية "الشعب" في تولي شؤونه، لا حرية "أفراد" هذا الشعب، في الرأي والفكر والمعتقد
فإذا قارنا هذا الحدث الاستعماري المؤسِّس بحدث آخر لا يقل عنه مركزية هو تأسيس دولة إسرائيل الاستعمارية فعلاً على أنقاض الشعب الفلسطيني؛ باتت السياسة بالألف واللام، لا تعني سوى مجابهة الغرب وصنيعته، أو بلغة رومنطيقية، ربيبته التي تُشكل خنجراً يطعن قلب الأمة العربية، يمنعها من لمّ شملها، وبالتالي استعادة "رسالتها الخالدة" على ما أخبرنا به حزب البعث!
هكذا تولى الصراع مع "الكيان الصهيوني" مهمة تسيير الحياة الفكرية العربية برمّتها.
فبقدر ما مثّل الصراع مع "الكيان الغاصب" استنزافاً للموارد المادية والذهنية، بحيث لم يعد هناك "صوت يعلو فوق صوت المعركة"؛ إلا أنه كان بمثابة هدية ثمينة للأنظمة العربية، حيث لاذت بـ"تحرير فلسطين" هرباً من الإجابة عن أسئلة حقيقية تتعلق بمصائر التجمعات البشرية الهائلة التي تحكمها، والذين لا يمكن القول عنهم إنهم مواطنون إلا من قبيل المجاز لا غير، على ما تدل ممارسات دولة الاستقلال، ومآلاتها التي ما تزال ماثلة للعيان.
وبجانب خطابات الأنظمة الانقلابية القومية-العسكرية، انضمت معارضاتها اليسارية "التقدمية"، والإسلامية "الرجعية"، إلى الهتاف، بل المزايدة في التشديد على مجابهة مؤامرات الغرب، ونيل "الاستقلال الحقيقي" ومقاومة الهيمنة الإمبريالية والرأسمالية.. والصليبية أيضاً!
كل ذلك وبقي "الإنسان" في هذه المنطقة، مجرد تفصيل صغير داخل هذه النوايا العريضة. فهو لا يحضر إلا بوصفه وقوداً لمعركة كبرى ستقع حتماً. معركة منه وإليه ولأجله. أما أن يُفكَّر في اقتصاده وتعليمه وصحته وحقوقه، وأن يعيش في مجتمع حديث، ودولة مؤسسات، مثلما هو موجود لدى "أعدائه"، فظلت مجرد وساوس خافتة تُدفن تحت السجادة، ويُعلّق أصحابها المرضى فوق أعواد المشانق، أو يُتركوا ليتعفنوا في السجون. وما زاد في هامشية هذه الوساوس، قلة اكتراث "الجماهير" بها، وعجز كلٍّ من الأنظمة السياسية ومعارضاتها المزايِدة، عن تصوّر حقيقي، يخرج بمجتمعاتهم من ثقافتهم النضالية، المانعة لأي تفاعل حضاري.
إنها الضدّية التي تتضخم لتصبح هُذاءً يهجو العقل. لا تعيش إلا على صخب المعارك الكبرى، التي يبدو أنها لا نهائية بقدر ما هي غير معروفة بالضبط. وأمام هدف سامٍ كهذا ورسالة خالدة كهذه، يُحتقَر ما دون ذلك. فتغذو السلطات القمعية بمذابحها وفئويّتها وفسادها وجرائمها، التي تجاوزت زمناً ونوعاً عهد أيّ "استعمار"، مجرد هوامش، لا تؤرّق أحداً من أهل الأقلام، أو من أهل الطعام.