تصديق العلم والقابليّة للخرافة
شهدت سماوات ليبيا منذ نحو أسبوعين، ظهور "القمر العملاق"، وهو حدثٌ فلكيٌ دوريٌّ، ينشأ عن اقترابِ القمر من الأرض عند أدنى نقطة في مداره الإهليلجي، ما يجعله يبدو أكبر من حجمه المُعتاد. لكنّ "طبيعيّة" الظاهرة، لم تلازمها طبيعيّة في استقبال هذا الحدث من معلّقي السوشيال ميديا، إذ عُزي إلى هذه الليلة قوى غامضة، تسهّل على الأشرار تنفيذ مآربهم، كما لم يخيّب التراث الديني آمال اللائذين به، فجرى تناقل أقوال وفتاوى وتفسيرات دينية حول الظاهرة، خرجت بها من التفسير الفيزيقي الفيزيائي، إلى عوالم الميتا الغنوصية اللانهائية.
لا تكتفي ليبيا بأن تكون مصدراً لأخبار الفوضى السياسيّة والأمنيّة، بل تتجاوز ذلك لأن تكون مسرحاً لممارساتٍ غرائبية، يختلط فيها الواقع بالخيال. فالتعاطي الخرافي مع ظاهرةٍ فلكيّةٍ طبيعيّةٍ، لا يمكن فصله عن مناخٍ عام مُهيّأ، ليس لقبول الخرافة فحسب، بل يعمل على شيوعها و"التبشير" بها، تحت سطوةِ تقاليد لم تخترقها بعد أسس التفكير المنطقي السليم، في أبسط صوره.
وفي تجسيدٍ لهذا المناخ، أسّست هيئة الأوقاف الليبية سنة 2022، لجنة "حصين" المُختصّة بـ"مكافحة السحر والشعوذة". أكثر من ذلك، أقرّ مجلس النواب قانوناً لمكافحة السحر، تتراوح عقوبة المتهم بممارسته، بين السجن لعشر سنوات إلى الإعدام. نجم عن ذلك مشاهد غريبة، سرعان ما جرى اعتيادها، لكثرة تداولها من جهة، ولحماسة المؤيّدين لها من جهةٍ ثانية: بضعة رجال يجوسون المقابر ويقلّبون التراب للعثور على تمائم السحر، بل ويغوصون في البحار بغية ملاحقة التعاويذ. آخرون يطوفون على المستشفيات بحثاً عمّا يكمُن وراء أمراض الفشل الكلوي أو الأزمات القلبيّة والعصبيّة، إذ لربّما تقبع خلفها نوايا خبيثة. فئة ثالثة من هؤلاء يصادرون أنواعاً من الأعشاب والبخور، ربّما تعين المشعوذ على نفثِّ شرّه.
ليبيا التي تُعدّ بلدًا يخلو من الأميّة تقريبًا، مع نسبةٍ عالية من حاملي الشهادات العليا، تؤكّد للعالم أنّ زمن "مطاردة الساحرات" لم ينتهِ بعدُ
ليبيا التي تُعدّ بلداً يخلو من الأميّة تقريبًا، مع نسبةٍ عالية من حاملي الشهادات العليا، تؤكّد للعالم أنّ زمن "مطاردة الساحرات" لم ينتهِ بعدُ. كما أنّ ربط مستوى التعليم بشيوع الخرافة كتناسبٍ عكسي، يبدو قديمًا بعض الشيء، لكنّه لا يزال رهاناً لأولئك المتفائلين باقتراب انقشاع ظلام الخرافة، لصالح نور العقل والعلم. لكن للأسف، لا توجد مؤشّرات تدعم هذا التفاؤل. فها هو زكي نجيب محمود، يحدّثنا قبل خمسين عامًا، عن أساتذة جامعات بأقسام علميّة صلبة، لا تشوبها سفسطة "الإنسانيات"، مع ذلك، حين يخرجون من الحرم الجامعي "يفاجئونك في جلساتهم الخاصة بقصص يروونها عن إيمان وتصديق، تقوم على الخوارق والكرامات التي لا يجوز قبولها إلّا إذا أجزنا تعطيل القوانين العلمية".
إذن يبدو أنّ الخرافة أشبه بفيروس عنيد، لا يفلح التكوين العلمي في علاجه بالضرورة. هنالك "بنية ذهنية" متكاملة، ترفدُ النظرة السحريّة وتعزّزها. يمكن تسميتها بالـ"القابليّة للخرافة"، تماماً كما أقرّ فيلسوف العلم كارل بوبر، أنّ أيّ نظريّة علميّة لا تكتسب مصداقيتها إلا بعد أن تكون "قابلة للتخطئة". فرغم الدعوات المكرورة التي تبدو ملحّة حدَّ الابتذال إلى تلقي العلم؛ فإنّ الحقيقة الواضحة التي يتعذّر على بعضنا رؤيتها، أنّه في ثقافتنا لا وجود حقيقياً لمفهوم العلم، ولا رغبة صادقة في الالتزام بمقولاته.
فلا يمكن للمجتمعات السلفيّة التي تتشكّل بُناها العقليّة على اجترارِ معارف القدامى، وأذعنت للتصوّرات الضيّقة عن الله والإنسان والكون؛ لا يمكنها قطعاً تقبّل العلم، الديناميكي المتجدّد بطبيعته، الخالي من أيّة قدسيّة أو حصانة، فضلاً عن أن تشجع عليه وتدفع باتجاهه. إنّ كلَّ كشفٍ علمي هو بمثابة صدمة جارحة تصيب المجتمع في تراثه الذي تعتبره العقلية السلفية (مثل أي شيء آخر) مقدّساً. فلا يمكن للمجتمع الذي يجزم أنّه امتلك مسبقاً الحقائق المطلقة واليقينيات القاطعة فيما يتعلّق بالماضي والمستقبل، أن يرى حاجة لإعمال الفكر، وبالتالي أن يجازف بنسف تراثه، لا سيّما أنّ علوم العصر الحديث ليست من صنعه، لم يشارك في خلقها أو يساهم في اكتشافها ووضْع أصولها. هو مجرّد مستقبِل لها، يُفاجَأ بها وتُفرض عليه نتائجها، تماماً كما كان الإنسان الأوّل يرى الظواهر الطبيعيّة وآثارها دون أن يملك إزاءها حولاً ولا قوّة.
الخرافة أشبه بفيروس عنيد، لا يفلح التكوين العلمي في علاجه بالضرورة
كما أنّ الماضوية بطبيعة تكوينها القائم على تقديس رجالات الماضي، تعارض بديهيات البحث العلمي، الذي يقوم في أساسه على حريّة البحث والشك، والتجرّد، والاستقراء، والتسليم بالنتائج مهما كانت. ومع هذا فلا يمنع أحياناً أن يتلقى المجتمع بسعادة غامرة، كشفاً علمياً أو بحثاً إنسانياً، قاد إلى تصديق روايته التراثية وكال المديح إليها. إنّ الإنصاف هنا غير مهم، المهم هو عدم المساس بالتقاليد الفكريّة.
وبالطبع لا يمكن أيضاً للمجتمعات السلطويّة الأبويّة القائمة على مبدأ السمع والطاعة، أن تُخرِج عالماً، ناهيك عن أن تشجّع على إخراجه. ذلك أنّ "المعرفة قوة"، وهو ما يعني شخصيّة لها استقلالها، وهذا متعذّر في مجتمعٍ أشبه بمصنع كبير، يعمل على إخراج نسخٍ كثيرة من قالَب واحد. والاستقلاليّة من ثم تعني الرفض، وهذا في لغة المجتمع يُترجم على أنّه تمرّد وشذوذ. والمعرفة تعني الشك، واستبدال الحقائق الشائعة، بأخرى أقلّ شهرة، وربّما أكثر ريبة، وهذا معناه ليس أقل من المروق. فالاستقلال بما ينطوي عليه من قيَم الحرية والتساؤل والنقد، لا يرادف في عُرف هذه المجتمعات، سوى معاني العصيان والضلال والجنون.
ولا يمكن أن يكون العلم مفهوماً ومحترماً، وبالتالي أن يكون له دور فعّال في التنميّة، داخل مجتمع يحصر لقب "عالِم" في ذلك الفقيه شبه الأمّي الذي تُسبَغ عليه صفة القداسة والتبجيل كما كانت تفعل الأمم القديمة مع كُهّانها، بينما كلّ ما يفعله هذا "العالِم" هو ابتلاع كتب التراث، ثمّ القيام بدلق بعضٍ منها في خطبه و"دروسه العلمية" التي تأخذ في أحيانٍ كثيرة منحى هزلياً، له علاقة بأيّ شيء إلّا العلم.
ولا يمكن أخيراً لـ"حصون العلم" من مدارس وجامعات ومعاهد، أن تقدّم لنا معرفة وتنتج لنا علماء، ففي النهاية من يقوم على "العملية التعليميّة" هم من إفرازاتِ المجتمع ومخرجات ثقافته، دع عنك الألقاب والرتب، فإنّ الحمولة الثقافية المُعادية للعلم، تجد صورتها المكتملة في المؤسّسات التعليميّة بالذات، التي تعمل على إضفاء بعضٍ من "اللمسة العلمية" على المعتقدات المجترّة. مفهوم التعليم هنا لا يعني شيئاً سوى التلقين. فالمعلم عندنا "كاد أن يكون رسولاً"، و"عصا الفقيه جنة"، و"لحوم العلماء مسمومة"، و"من علمني حرفاً صرت له عبداً"، ولنا أن نتخيّل عدد المعلّمين الذين سنصير مدينين لهم بحياتنا، وبذلك ندرك استحالة تنميّة عقل نقدي أو إبداعي في ظلّ قيود مكبِّلة كهذه، تجعل من الحاضر أسيراً دائماً للماضي. فمساءلة "الثوابت" دائماً ما تُثير الريبة، ولا تفرقة عندنا بين "النقد" و"الطعن". وهكذا تُحوّل "صروح العلم" لمجرّد معامل لـ"تكرير" الأفكار، كمصانع تكرير النفط، وإن كانت الثانية أكثر فعاليّة إنتاجيّة بما لا يُقاس.
من يقوم على "العملية التعليميّة" هم من إفرازاتِ المجتمع ومخرجات ثقافته
كذلك فرغم الإلحاح الذي يطالعنا في كلّ مكان حول احترام حقّ حريّة البحث والنشر، والدعوة إلى الموضوعيّة والحياد وغيرها في مقاربة الإشكاليّات المعرفيّة، في المدارس والجامعات والإعلام، فإنّه لا أحد يرغب حقاً في أن يُجازف بوضع سلّة معارفه القديمة جانباً، أو على الأقل يعرّضها للتفتيش والتصفية، وجميعنا يعرف مصير من فعل هذا من مفكرين وعلماء (خصوصاً في مجال العلوم الإنسانية ذات الهامش الكبير في الاختلاف) من قتل وتكفير ونفي وفصل من العمل الصحافي والجامعي، فما بالنا بالعلوم الطبيعيّة البحتة ذات المسلّمات الثابتة في معظمها؟
إذن، هل ما زلنا نؤمن بمصداقيّة الدعوات إلى التفكير العلمي؟ وهل يكفي هذا لاستئصال الخرافة؟ ربما علينا انتظار الإطلالة القادمة لـ"القمر العملاق"!