بين حاتـم علي ووحيد حامـد
منذ نحو ثلاث سنوات، توفي المخرج السوري حاتم علي، ليلحقه بعد عدّة أيام السيناريست المصري وحيد حامد. اسمان كبيران شغلا الفضاء الفني بأعمالهما التي أضحت علامات في مسيرة الإبداع العربي. الأول، في مجال التلفزيون، والثاني، في عالم السينما، الذي لم يخلُ من تجارب درامية. مع ذلك، عند الانتقال من الوصف الثقافي إلى التعاطي "الشعبي"، سنجد تمايزا يُباعد بين الراحلين، إن لم يجعلهما على طرفي نقيض.
لا يُذكر حاتم علي في جملة التأبينات الشعبية التي رثته إلا بوصفه صاحب الملاحم: "الزير سالم"، و"ثلاثية الأندلس"، و"التغريبة الفلسطينية". ولا أحد يجادل في قيمة هذه الأعمال، شكلًا ومضمونًا، وكيف أنّها لا تمثّل فقط علامات فارقة في مسيرة الراحل، أو في مسيرة الدراما السورية؛ وإنّما في تاريخ التلفزيون العربي برمّته.
ولم تحظ هذه الأعمال (ومن ورائها حاتم علي وشريكه وليد سيف) بالقبول الشعبي، والاحتفاء الشعري، بسبب إدراك ما كان يقصده صنّاعها، ولا عبر استيعاب للإشكاليات والأسئلة التي يبثّها في جَنبات القصة والحوار ورسم الشخصيات. هي لم تُقبل لذاتها، وإنما لـ"وظيفتها". ووظيفتها (كما يفهمها الجمهور العريض)، تتمثّل في إذكاء لهيب النوستالجيا الحارقة، التي ما يزال يتقلّب فيها أبناء هذه المنطقة من العالم، ممن انسحبوا منذ زمن بعيد من أيّ فعاليّة في الحاضر، وقنعوا بالعيش على هامشه، مكتفين بظلال التاريخ.
تكمن عظمة حاتم علي عند فئة من الجمهور، بأنه راوٍ للتاريخ، حارس للذاكرة، ومايسترو قدير، لجوقة اللاطمين والنائحين والشعراء الرومانسيين البائسين
ومن هذه الزاوية، يتبدّى "الزير سالم" نوستالجيا العرب الأقحاح، حيث الأنَفة والحميّة والتضحية بالنفس والمال في سبيل الشرف. وتغدو "ثلاثية الأندلس"، مرثيات حزينة، في الفخر بماضٍ تليد، نُباهي به حاضر "الآخر" المتفوّق، ونتحسّر على فردوس مفقود، نعلّل الآمال على "استعادته" مرّة أخرى. أما ذروة الحنين، المكلّل باللوعة الحارقة؛ فتتمثل في "صلاح الدين"، و"التغريبة". الأول: رجع صدى لسيرة البطل المخلّص، الذي حرّر المدينة المقدّسة من أيدي الغزاة وأعادها إلى أصحابها. أما الثاني، فهو استرجاع للغزوة الثانية والأخيرة، وهي الأقرب عهدًا، والجرح الذي ما يزال نازفًا.
هنا تكمن عظمة حاتم علي عند هذه الفئة من الجمهور، فهو راوٍ للتاريخ، حارس للذاكرة، ومايسترو قدير، لجوقة اللاطمين والنائحين والشعراء الرومانسيين البائسين.
وإذا كانت النظريات النقدية الحديثة تعطي الحق للمتلقي في فهم ما يراه من العمل؛ فإنّ من حق المبدع أيضا أن يكون له نصيب من قراءة ذاتية لعمله، تخرج إبداعه من حيّز المسلّمات الثقافية السائدة، إلى ما يريده هو وفقًا لرؤيته الخاصة، مهما تكن طبيعة القصة وزمانها. وإلى جانب هذا، تظل القراءة الشعبية ليست فقط ناقصة، وإنّما مشوِّهة له كذلك، حين تُحمّل حاتم علي ما لم يُرد قوله. فوفق ذلك التلقي المغلق، لا أحد يكترث باشتباكات "صلاح الدين" أو "محمد بن أبي عامر"، مع إكراهات السياسة، وتقاطعاتها مع إلزامات الدين وحسابات المصلحة العامة وشهوة السلطة، ولا أحد يقف عند مشاعر "أبو صالح" وأولاده وجيرانه في "التغريبة"، حين يخرجون من سيرة الاحتلال والتهجير، إلى أسئلة أكبر عن المعنى والوجود، ومساءلة الحكمة من كلّ هذا، وعن الصحيح والخاطئ في التعاطي مع الأقدار.
لا يمكن نزع الفنون والسياسة عن حيّزها الاجتماعي، وعن العقل الجماعاتي، الذي طالما ادعت الاهتمام به، والعمل من أجل تغييره
حتى "الفصول الأربعة"، و"أحلام كبيرة" وغيرها من الدراميات الاجتماعية المعاصرة، تبقى في هذه القراءة عند حدّ النوستالجيا الحميمة: أعمال لطيفة "نظيفة" كانت تجمع العائلة حولها. أمّا إدراك الأبعاد السياسية والاجتماعية والنفسية فيها، فمتروك للنقاد وللنابهين من المشاهدين. وأمّا الغايات الذاتية للمبدع، مؤلفًا أو مخرجًا، فتظلّ معرفتها مقصورة على المقرّبين من الأصدقاء ورفاق العمر والتجربة، مفتوحة على تأويلات شتى.
وهذه "الوظيفة" التي على أثرها، يصنَّف المرء في زمرة الشياطين أو القديسين، مع الأبطال أو العملاء، تتجلّى حتى في التقييم السياسي، فإذا رفع أحد الزعماء عقيرته بشتم الإمبريالية والصهيونية، وتعهد بالتصدي والمقاومة، والمحافظة على الاستقلال وكرامة الشعب وحريته. .. إلخ، سيترسخ في الذاكرة بطلًا منشودًا، ورمزًا معبودًا، مهما كان الواقع مناقضًا لهذه الشعارات، ومهما كانت مسيرته مثالًا للفشل والظلم والاستعباد والتخلف. وعكسه إذا اتسم الحاكم بشيء من التواضع والواقعية، وانكفأ إلى الداخل، ليُعنى بالتعليم بدل الإمبريالية، وبالصحة بدل الصهيونية، وبالحقوق والحريات بدل شتم الاستعمار، وبالبحث العلمي بدل التغني بميراث الأجداد. وهنا يغدو هذا "العقلاني" مجنونًا شذّ عن الإجماع، وخرج عن الثوابت. وهذه المعادلة، صالحة إلى حدّ كبير في تقييم المفكرين والأدباء والسياسيين.
ولربما يكون هناك شطط ما في هذا الربط، لكن لا يمكن نزع الفنون والسياسة عن حيّزها الاجتماعي، وعن العقل الجماعاتي، الذي طالما ادّعت الاهتمام به، والعمل من أجل تغييره.
وهذا "التوظيف" عينه للفاعل الثقافي والسياسي، يصح بشكل معكوس في وحيد حامد، أحد أبرز كتّاب السيناريو في تاريخ مصر، وربما الأنجح في الثلاثين سنة الأخيرة. فوحيد حامد وفق الثقافة الشعبية (مرّة أخرى، المقياس هو تفاعلات الجمهور الافتراضية، وليس عبر استطلاع علمي)، مُخرج "شاطر" له أعمال رائعة في أحسن الأحوال، و"له ما له، وعليه ما عليه" في الأحوال العادية، أو هو "مسيء للإسلام، خليع، منافق السلطة... إلخ"، في أسوأ مراحل التقييم الشعبي.
ميراث وحيد حامد، مثير للجدل، فاقد لـ"الإجماع"، يوضع تحت المجهر، وداخل الغربال، قبل أن يُقال فيه بعض ما قيل في حق حاتم علي، من رثاء وإكبار
ذلك أنّ وحيد حامد، يمثّل عند أصحاب هذه الرؤية، النموذج المناقض لحاتم علي. فهو المهموم باللحظة الراهنة، وليس بغابر الأمجاد. هو الذي يبتعد عن سحر الفصحى، ليقدّم لغة عامية مباشرة، وربما مبتذلة وسوقية، يضعها على لسان شخصياته، معبّرةً عن واقع الحال بلا رتوش. هو المشاغب الذي يلمّح في "النوم في العسل، الحرّيف، في التخشيبة، الراقصة والسياسي". وهو الناقم الذي يكاد يصرّح في "البريء، طيور الظلام، اللعب مع الكبار، الجماعة". كلّ ذلك في خرق واضح للتابوهات السياسية والدينية، وفي إدانة ظاهرة ومستترة للمنظومة الاجتماعية الظالمة والمظلومة في آن. فبدهيّ وِفق هذا أن يكون ميراث حامد، مثيرا للجدل، فاقدا لـ"الإجماع"، وأن يوضع تحت المجهر، وداخل الغربال، قبل أن يُقال فيه بعض ما قيل في حق حاتم علي، من رثاء وإكبار.
هكذا بحسب "النظرة الوظيفية"، يُرفع حاتم علي بتحميله ما لا يطيق، ويُحطّ من وحيد حامد بما قصده عن سبق إصرار وتعمّد.
وقد يبدو هذا قدَر المبدع العربي والمثقف بالعموم: أن يكون طرفا في معادلة صعبة، بين أن يكون منتميًا لذاته المفكّرة وحساسيّته النقدية، وبين أن يكون "لسان القبيلة"، بمثل ما كانه الشاعر القديم.
ولكن من يدري، فلربما يوما ما تنقلب المعايير وتتغير المقاربات والتقييمات، بما أنّنا في خضمّ نهاية مرحلة في السينما والتلفزيون، وبصدد مستقبل مختلف تمامًا، في طبيعته السياسية والاجتماعية، وآلياته الإبداعية، وطرائق فهمه وتلقيه. فنحن كما قال أنطونيو غرامشي: "بين عالم قديم يموت، وعالم جديد لم يولد بعد".