دوائر المسألة الفلسطينية
إذن، تتجدّد الحرب الإسرائيلية الموسمية على الأراضي الفلسطينية. وفي كلّ مرة يتنازع المناصرون للقضية الفلسطينية، حول إعطاء طابَع محدّد لنضالهم، الذي ما يزال مثار كثير من اللّغَط واللّبس، خصوصاً لدى القطاعات الشعبية الواسعة، بعيداً عن دوائر الأكاديميا السياسية والثقافية. فهل نحن أمام قضية دينية، أم قومية، أم إنسانية؟
الحق أنّنا أمام ذلك كلّه. والإقرار ببُعد واحد من أبعاد الإشكالية، لا ينفي احتمال حقيقة وجود البُعد الآخر وحجم تأثيره. الأمر أشبه بشعار الأولمبياد: مجموعة حلقات مترابطة تنتظم في عِقد واحد.
البُعد الديني: فمهما يكن موقف المرء من الدّين تصديقاً به أم لا؛ فلا يسعُه أن ينكر قوة حضوره في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. فنحن أمام رقعة جغرافية صغيرة مكتظة بالمقدّسات اليهودية والمسيحية والإسلامية، بسردياتها العقائدية التي تتشابه وتختلف في قليل أو كثير.
وأهم من ذلك، أنّ أدبيات تأسيس إسرائيل، حتى قبل وجودها، كانت تُقدّم نفسها كوطن لليهود (وهو ما نصّ عليه تصريح بلفور 1917)، وما تزال حتى اليوم تُعتبر الدولة الوحيدة في العالم التي تعطي جنسيتها بحسب الديانة: لأيّ يهودي، أو لابن اليهودية، مهما تكن بلدانهم الأصلية، ومهما تكن إجادتهم للعبرية أو التزامهم بالشعائر الدينية. ومن الطريف الإشارة إلى أنّ معظم كبار الصهاينة المؤسّسين للدولة، من مفكرين وسياسيين وعسكريين، لم يكونوا مؤمنين، أو في أحسن الأحوال كانوا "عَلمانيين"، لكنهم في سبيل بحثهم عن حلّ، كان آنذاك "قوميا" للمسألة اليهودية، لم يكن لهم مفرّ من تبني سردية "استعادة الأرض الموعودة لشعب الله المختار"، وإعادة أمجاد "مملكة إسرائيل"، في إطار التعبئة واستنفار يهود العالم إلى الهجرة.
إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تعطي جنسيتها بحسب الديانة: لأيّ يهودي، أو لابن اليهودية، مهما تكن بلدانهم الأصلية، ومهما تكن إجادتهم للعبرية أو التزامهم بالشعائر الدينية
وقد استمر التأثير القوي للوجود العلماني/ اليساري، في أروقة مؤسسات الدولة الإسرائيلية، لكن في العقود الأخيرة، شهدت إسرائيل (على غرار ما حدث لجيرانها العرب) صعوداً أصوليّاً دينيّاً، قَلَب أدبيات السياسة، وغيّر من معادلة المتدينين/العلمانيين داخل الدولة، حتى لم يعد يوجد اليسار إلا بوصفه يساراً لليمين. أمّا مجتمعياً، فزادت نسبة الشباب المتديّن الذي تقوده تعاليم متطرفة. والبحثُ فيما جرى بباب العامود ربيع 2021 أو الاشتباكات الدورية في المدن المختلطة، يكشف أنّها ناتجة في الأصل عن منظمات شبابية دينية، لم تستطع حتى قوات الشرطة كبحها، تندفع بوعي أصولي يهودي، يرى حتمية التهويد الكامل للأرض والمقدّسات والدولة، والتخلّص النهائي من الفلسطينيين داخل "إسرائيل التاريخية". هذه المنظمات (التي صار لها وزن سياسي ثقيل جداً) دوماً تشتبك بعنف مع منظمات حقوقية ومدنية في إسرائيل نفسها، واصفة أعضاءها بالخونة.
أمّا على الصعيد الإسلامي، فالأمر لا يحتاج لطول شرح. فمنذ ما يزيد عن أربعة عقود، انحسر اليسار العالمي (الذي كانت منظمة التحرير تنتسب إليه) بأيديولوجيته المعادية للإمبريالية والمناصِرة لحق الشعوب في التحرير وتقرير المصير، ليحلّ مكانه المدّ الأصولي الإسلامي؛ الذي قُدّم النضال على يديه في هيئة شعارات دينية، من قَبيل: "الصلاة في القدس" أو "إنّ الأقصى عقيدة وجهاد"، بتصرّف من أحمد شوقي. لكن بالطبع هذا لا ينفي المكانة المهمة للمدينة ومقدّساتها الإسلامية في الضمير الفلسطيني والإسلامي، من قبل سنة 1948، وإن ازدادت أهميتها عقب هزيمة 1967، وتكرار حوادث اقتحام الأقصى، حتى أَضفيت هالة ضخمة من القداسة العَقَديّة على القدس والأقصى، بشكل ربّما لم يكن حاضراً بتلك القوة في تاريخ الإسلام المبكّر.
وعلى هامش اليهودية والإسلام (وهو أكبر من هامش في الحقيقة!)، يبرز تيار "المحافظون الجدد" في الولايات المتحدة، وهو تجمّع لليمين المسيحي الإنجيلي ذي الرؤية الصهيونية، الذي يتفق إجمالاً مع السردية اليهودية الأصولية، مع اختلافاتٍ طفيفة.
أمّا عن البُعد القومي، فباختصار، ومن دون اكتراث كبير لما قد يعتري المصابين بـ"العَرَبُوفوبيا"؛ فإنّ للمسألة الفلسطينية بُعداً قوميًا عربيًا لا يُماري فيه عاقل. فإسرائيل أُقيمت في محيط عربي، والشعب الفلسطيني الذي اقتُلع من أرضه وهُجّر من دياره (بغضّ النظر عن نتائج تحليلات الحمض النووي "العلمية") هو شعب عربي. لذلك من الطبيعي التفكير أنّ العربي المصري واللبناني والخليجي والجزائري، سيكون معنيّا بأمر هذه القضية أكثر من المسلم الماليزي أو السنغالي، أو اليساريّ الفنزويلي، أو الهبّيّ المسالم من ضواحي سان فرانسيسكو.
إنّنا اليوم أشبه بقاطني منزل واحد ذي غرف كثيرة، ولإحداث التواصل مع بقية سكان المنزل، يَلزم الحديث باللغة المشتركة التي يفهمها الجميع
عندما تحدث مشكلة لأحدهم، قد يلقى التضامن من الجيران والأصدقاء، لكن يظل أفراد العائلة هم المعنيين وحدهم بالمشكلة. هذا عدا عن الأكلاف الباهظة التي دفعتها المجتمعات العربية، من حقوقها السياسية وتنميتها الاقتصادية، عندما حُكمت بأنظمة عسكرية "تقدّمية"، كان "تحرير فلسطين" مصدر شرعيتها الوحيد.
وفي ما يخصّ البُعد الإنساني، يمكن القول إنه على الرغم من طغيان التصوّر الديني في التعاطي مع القضية الفلسطينية مؤخراً، وارتفاع نبرة الازدراء والتهكّم لمفاهيم حقوق الإنسان والقانون الدولي وغيرها؛ إلا أنّه عند اندلاع أول أزمة كبيرة، يهرع الجميع إلى مناشدة العالم وإقناعه بمعاناتهم، بُغية اكتساب تعاطفه ونيل مساعدته.
وهذا طبيعيّ تماما. فنحن لا نعيش على هذا الكوكب بمفردنا، والعالم اليوم أصبح صغيراً ومتقارباً أكثر من أيّ وقت مضى، حتى باتت تعابير "القرية واحدة" أو "القرية الكونية"... تعابير مبتذلة.
إنّنا اليوم أشبه بقاطني منزل واحد ذي غرف كثيرة، ولإحداث التواصل مع بقية سكان المنزل، يَلزم الحديث باللغة المشتركة التي يفهمها الجميع، وهي مجموعة القيم الأخلاقية الكونية التي باتت تشكّل الوعي الإنساني على امتداد الكوكب اليوم، بغضّ النظر عن مدى التزام الحكومات السياسية بها. الحديث هنا عن الرأي العام العالمي، والمنظمات الفاعلة في الدفاع عن الحقوق والحريات، وناشطي السلام المؤثرين، بل والأجيال الجديدة من السياسيين، وقبل هؤلاء جميعا، غالبية "البشر البسطاء" في أنحاء العالم.
لعرض المظلوميّة والمطالبة بالحقوق؛ لا بدّ من الانطلاق من أرضية يقف عليها الجميع
حتى على الصعيد الرسمي، فإسرائيل دولة معترَف بها في الأمم المتحدة، وهي مُصدّقة على عدد من المواثيق والمعاهدات الدولية، بما فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومثلها باقي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ومجلس الأمن والدول العربية المعنية بالقضية.
فلعرض المظلوميّة والمطالبة بالحقوق؛ لا بدّ من الانطلاق من أرضية يقف عليها الجميع. فنقول إنّنا نعاني من "احتلال" و"إرهاب" و"تهجير" و"تطهير عرقي" و"اعتقال تعسفي" و"تضييق على حرية العبادة". وإنّنا في مقابل ذلك نريد "الحرية" و"حق تقرير المصير" و"الديمقراطية". مع الاحتكام في كلّ ذلك إلى القانون الدولي بمؤسساته وهيئاته المختلفة، والشرائع الدولية التي اتفقت عليها كافة الأمم. ويتم ذلك في إطار عمليّة سياسية/ثقافية جدّية تشمل كلّ الطّيف الفكري الفلسطيني. هذه اللغة التي يفهمها العالم، وهي التي تشكّل الوجدان الإنساني اليوم، بما فيه الوجدان الفلسطيني، الذي يرفض القمع السياسي والحقوقي من أبناء جلدته في الضفة والقطاع، بمثل ما يرفض العنف الإسرائيلي ووحشيته.
وهكذا تتضافر العوامل التي تجعل للقضية الفلسطينية أنصاراً كُثراً، بما يفوق عدد ضحاياها، ولكن ربّما هذه الأبعاد الكثيرة هي ما تزيد الألم والحيرة، حيال العجز عن الانتصار لقضية هي عادلة من جميع الوجوه.