ملف العنصرية: حدود الخطاب الأخلاقي (16)
في الأيام القليلة الماضية، ضجّت السوشال ميديا الليبية بصورة لأسرة أفريقية تتنزّه في المدينة القديمة في العاصمة طرابلس. حملت معظم التعليقات احتفاءً مُبالغاً فيه، وإطناباً في تبيان جمالها ولطافتها.
ومكان الصورة له دلالة مهمة، ذلك أنّ المدينة القديمة تشتهر بإقامة عديد من المهاجرين الأفارقة في منازلها المتداعية، التي هجرها أصحابها بسبب عمليات الترميم التي كانت تحدث بين حين وآخر، أو قيام البعض بتأجيرها لبعض الجنسيات الأجنبية، خاصّة مع فقدانها جاذبيتها كحيّ سكني منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة.
لذلك ليس غريباً أن تتكرّر الشكاوى مما يوصف بـ"احتلال" أفريقي لليبيا، وهي شكاوى لا تقف عند قاطني المدينة القديمة، وإنّما تمتد لتشمل انزعاجاً وسخرية واضحيْن، خصوصاً عندما يخرج الأفارقة في جماعات للاحتفال بمواسم الأعياد. مشهد لطالما أخاف كثيراً من الليبيين. إذن، هل ثمة تغيّر طرأ على الليبيين؟!
ليبيا نفسُها كانت قبل ست سنوات محطّ أنظار العالم، بسبب وجود "سوق رقيق" تُنظمه شبكات لتهريب البشر، تستغلهم ماديّاً وجنسيّاً، أو تُجبرهم على العمل بالسّخرة. صَدمت الصور الليبيين كغيرهم من الذين تداولوا الأخبار حول العالم. كان لسان حالهم يقول: "هؤلاء المجرمون لا يمثّلوننا. نحن شعب طيّب ومتسامح، وهذه ليست أخلاقنا".
يمكن بالطبع ردّ مثل هذه الفظاعات إلى الأوضاع الأمنية المضطربة، وانتشار عصابات الجريمة، المنظّمة منها والعشوائية على السواء. لكنّ نظرةً متفحّصة لطبيعة العلاقات بين تركيبات المجتمع المختلفة تخبرنا بوجود تقاليد راسخة من التمييز والفرز، مما لا يطاول المهاجرين الأفارقة وحدهم، أو حتى سكان ليبيا من السود، الذين يُشكّلون الغالبية في مناطق جغرافيّة شاسعة، وإنما يتجاوز ذلك ليشمل تمايزات عِرقيّة وعشائرية ومناطقيّة، وحتى جندريّة، فيما خصّ أوضاع المرأة. فهذه الأخيرة (في ليبيا دائماً)، قد صَدر قرار بحقها قبل أسابيع، يمنعها من السفر دون "مَحرم".
ليس مجهولاً قيام أنظمة الأحوال الشخصية على أسس دينية وطائفية. هذا الفصل الصارم يسير مع "المواطنين" إلى ما بعد الموت، فالمقابر هي الأخرى "مطيّفة"
وينال البحث في هذه التمييزات وجاهته من كونه يرسم إطاراً واسعاً للتفاعلات الإنسانية في مجتمعات تعاني من حالة الانسداد السياسي والتخلّف التشريعي، وسيطرة نوع من التفكير العُصبويّ، ما يزال مشدوداً إلى الهويّة الجماعاتيّة، مما يُناقض جوهرياً مفهوم "المواطنة" و"دولة القانون"، التي لا تفرّق بين أحد من مواطنيها... أو هكذا يُفترض، بحسب ما تنصّ عليه معظم دساتير الدول العربية.
من دون نظرة فاحصة تضع تعقيدات العلاقات المجتمعية في سياق عضوي مرتبط، سيبقى التعاطي مع العنصرية مجرّد "إيديولوجيا أخلاقوية"، معزولة عن الاشتباك مع واقع صعب ومعقّد.
فقد درجَت أدبيّات الثقافة العربية، سياسيّاً وفكريّاً، وبدرجة أقل فنيّاً وأدبيّاً، في إطار سعيها إلى تسوية تضاريس "الأمة"، إلى نفي "الادعاءات" حول موروثاتنا في التفرقة والتمييز، التي ربما "يتوهّمها" البعض. وإذا ما كانت الوقائع عنيدة يصعب إنكارها، رُدّت "الظواهر" إلى عامل خارجي: استعمار، رأسمالية، وسرديات استشراقية مغرضة! كل ذلك، وبقي الحفر في أساسات الاجتماع يُقارَب بحذر كبير.
وقد يُقال أحياناً، وبضبابية لا تُفصح، إن المُشكل يكمن في "البنية المجتمعية". وليست هذه إلا ثقافة المجتمع المتصلّبة، التي تُغّذيها تشريعات الدين، وقوانين الدولة، ومناهج التعليم، ووسائل الإعلام. فليس سرّاً أنّ الزواج في كثير من الدول العربية ممنوع بين الطوائف والأديان المختلفة. وليس مجهولاً كذلك قيام أنظمة الأحوال الشخصية في دول على أسس دينية وطائفية. هذا الفصل الصارم يسير مع "المواطنين" إلى ما بعد الموت، فالمقابر هي الأخرى "مطيّفة"، فضلاً عن استمرار إرث استعباد بدائيّ، من بيع وشراء واستخدام، في بلدان كاليمن وموريتانيا.
أنماط عنصريّاتنا، تتعلّق بتشكّلات تراتبية تاريخية، تقوم على تعبيرات السيادة وممارسات الهيمنة، أكثر منها عنصريات بالمعنى التقليدي
للفيلسوفة السياسية حنّة آرنت كتاب شهير بعنوان: "أسس التوتاليتارية". نقّبت فيه عن جذور النظام الشمولي: تشكّلاته، سياساته، أنماطه الدعائية، وسرديّاته عن تاريخ الأمة ومستقبلها.
والمطلوب من أجل تفكيك العنصرية، كما كلّ ذهنيّة تمييزية، ليس أقل من هذا: حفر في "الأصول"، بجرأة ورصانة، لا تخشى "الفتن المجتمعية" ولا "هدم الثوابت الوطنية"، فضلاً عن الخوف من تهمة "الثقافوية"، التي بات يرميها كثير من المتأثرين بدراسات ما بعد الكولونيالية. ولعلّ غياب النقاشات العمومية الحرّة، والفضاءات التي تؤمّنها، هو الذي حذا بالكثيرين إلى استبدال "النشاط" بالفاعليّة السياسية.
الناشطيّة والنضال السياسي
على أنّ الوقوف عند حدود "النشاط" المدني قد لا يفعل أكثر من خلق "غيتوهات" خطابية/قيَميّة، لا تؤثّر بشكل جدّي وملموس في المصادر المولّدة لأنماط التمييز، بالأخص السياسية والقانونية. الأمر شبيه بشعار "الحرية الشخصية" الذي يُرفع دائماً في وجه انتهاكات السلطة والمجتمع لحقوق الأفراد.
صحيح أنّ كثيراً من "الحقوق" مكفولة بحسب القوانين المحلية والمعاهدات الدولية، لكنّه وجود نظري لا يُترجَم واقعاً. فضلاً عن "حقوق" أخرى لا يشملها التدوين. وهنا تغدو "الناشطيّة" فاقدة لأيّ أساسات يؤمَل البناء عليها.
فالتمييز العنصري تحديداً مُدان دولياً منذ 60 عاماً على الأقل، ومواثيق إدانته شهدتها ووقّعت عليها كل دول العالم تقريباً، ومع ذلك تزداد الحاجة إلى اتخاذ مقاربات مختلفة، بالنظر إلى تعريفات العنصريّة، التي تدور حول الاعتقاد بوجود سمات مميّزة أو خارقة لجماعة ما، تجعل المنتمي إليها يشعر بنوع من التفوّق على كلّ من هو خارج انتمائه. لكنّ هذا التعريف قد لا ينطبق بالضرورة على "عنصريّاتنا". فإذا تجوّل أحدهم في أحد البلدان العربية متسائلاً عن مفاهيم "التفوّق" و"السموّ" و"الانحطاط" لما وجد لها تأثيراً. ذلك أنّ أنماط عنصريّاتنا، تتعلّق بتشكّلات تراتبية تاريخية، تقوم على تعبيرات السيادة وممارسات الهيمنة، أكثر منها عنصريات بالمعنى التقليدي، مما يُشار إليه عادة في المقولات الحقوقية والقانونية.
الاكتفاء بنقد "ثقافة المجتمع" وشتمها؛ فهو فعلاً، ما يُوقِع في "الثقافوية"، ويتجاهل بدهيّة العائق السياسي في مجتمعاتنا
إذن، فالحرب على بُنى التمييز تحتاج إلى نضال سياسي/قانوني/ثقافي، متوازٍ وفعّال، وليس إلى تجمّعات "تنشط" في مجال "حقوق الإنسان"، مراهنةً على "وعي المجتمع"، ومتسلّحة بالقوانين النظرية.
والحق أنّ هذا النضال السياسي ليس سهلاً في مجتمعات تُحكم بسُلطات قمعية، لا تُهمل فقط قضايا الحقوق والحريات، وإنما تقتات على غيابها وتعمل على تكريسها واللعب على توّتراتها. ومن المعلوم، أنّ أنظمةً راسخةً في الاستبداد تقوم على العصبيّة المذهبية أو العشائرية.
رغم ذلك كله، فلا بديل عن العمل السياسي (مهما بلَغت كلفته) الذي يحمل برنامجاً واضحاً للحقوق السياسية والقانونية للمواطنين. أما الاكتفاء بنقد "ثقافة المجتمع" وشتمها؛ فهو فعلاً ما يُوقِع في "الثقافوية"، ويتجاهل بدهيّة العائق السياسي في مجتمعاتنا، حيث دولتنا التدخليّة جداً، الأبويّة جداً، التي حَملت منذ تأسيسها تشوّهاتنا وتناقضاتنا كافة.
وبالعودة إلى إشادة الليبيين بصورة العائلة الأفريقية، ربما يُشير هذا إلى أنّ مِن حسنات "الناشطيّة" نشر التوعية بحقوق الإنسان وحرّياته، كمبدأ أخلاقي حديث، يراعي حساسيّات الإنسان المعاصر، لكنّ الطموح إلى أبعد من ذلك كـ"المكافحة" و"القضاء على"، فهو تفاؤل بريء؛ إذ ليس بالنوايا الطيّبة وحدها يُنصَف الإنسان، وتُقوَّم البلدان.