"خوش آمِديد" أو أهلاً بكم في إيران
تبدو إيران بلداً متّشحاً بالسواد. على الأقل منذ أطاحت الثورةُ الإيرانية الشاهَ المستبد، محمد رضا بهلوي سنة 1979، ليُعلَن إثر ذلك ولادة الجمهورية الإسلامية.
قبل ذلك بخمس سنوات، وُلدت دلفين مينوي، الإيرانية-الفرنسية. لم تكن معرفتها عن بلد أجدادها، تزيد عما تتناقله الأخبار عن بؤس الإيرانيين في ظل الثورة، إلا أن تعليقات الفرنسيين المشحونة بالتعاطف المشفق تجاهها، دفعها لاكتشاف مدى حقيقة الصورة السائدة عن إيران: بلد يلفّه الغموض، بنظام ديني متشدد، يقوده ملالي متجهّمون.
في عام 1997، سافرت إلى إيران لإجراء بحث تخرجها الجامعي في قسم الصحافة. يسألها موظف في إحدى وكالات السفر عن المدة التي ستقضيها هناك: "أسبوع". لم تعرف أنها ستبقى عشر سنوات.
تعود صيف 1998، بعد نحو سنة من انتخاب الرئيس الإصلاحي محمد خاتَمي. تبدو البلاد متوثّبة للتغيير، بعد انتهاء الحرب الدامية مع العراق، التي وإن كانت أكلافها باهظة، إلا أنها أسهمت في توطيد أركان الثورة، وإحكام قبضتها على الدولة والمجتمع، جاعلة منها سردية تأسيسية جديدة للجمهورية الإسلامية، مُدشّنة طقس عبادة الموت، وتقديس الشهادة والشهداء.
تمضي دلفين في شوارع طهران، مقتربة من هواجس الإيرانيين وأحلامهم، وتصوراتهم عن بلادهم وعن العالم، على أعتاب الألفية. لكنها لم تكتفِ بالعاصمة فحسب. إيران بلد كبير، وشعوبه متنوّعة، بشكل قد لا يدركه من أعمته كآبة الثورة.
ترحل إذن. البداية مع بندر عبّاس. الميناء الأشهر على الخليج الفارسي. بيئة تناقِض العاصمة. لكنّ إنهاك الماضي والاستبشار بالمستقبل، هو ما يوحّد الإيرانيين. تلاحظ هنا أن تديّن أهالي بندر عبّاس "شعبي" ومتنوّع، لم يؤثر فيه تديّن الثورة الأيديولوجي. ظهر الاختلاف أيضاً في اللباس والموسيقى ونمط الاجتماع.
المحطة الثانية قُـمْ المقدسة. "عاصمة الحداد والدموع". تلتقي بابن آية الله منتظري، الذي سيحدّثها عن رفض والده لـ"الفاشية الدينية". كان منتظري تلميذ المرشد الخُميني المقرّب، والمرشح لخلافته. لكن آراءه الجريئة دينياً وسياسياً، أبعدته عن المنصب، قبل أن ينزوي في الإقامة الجبرية.
بعد سنوات، وفي العراق، حيث كانت تغطي وقائع سقوط نظام صدّام، ستلتقي مصادفة بحفيد الخُميني، الذي زار العراق هو الآخر، ليُذهلها بأنه يعتبر الجيش الأميركي قوة تحرير لا قوة احتلال، وأنه لا يرى مجالاً للتغيير في بلاده، إلا بتدخل على هذا النمط!
في سنة 2005 انتهت الولاية الثانية لخاتَمي. وفي الخامس والعشرين من يونيو/ حزيران، أُعلن فوز المتشدد أحمدي نَجاد. عاد المحافظون، وعادت معهم البلاد سيرتها الأولى.
بعد أربع سنوات خانقة؛ حانت فرصة التغيير في انتخابات الرئاسة لسنة 2009. آن أوان إزاحة نجاد، الذي لم يتوقع أحد فوزه بالانتخابات الماضية، ولا أحد الآن يريده أن يستمر. على الأقل هذا ما ظنّته مينوي خلال لقاءاتها وزياراتها الكثيرة لمراكز الحملات الانتخابية، ومراكز الاقتراع. كان الجميع يتوقون لعودة عهد الإصلاحات. رفسنجاني وكرّوبي، كانا أوفر حظّاً من غيرهما.
بيدَ أن أحدهم قرر أن يمدّد لنجاد، ولاية أخرى، دون اكتراث كبير برغبة الشعب.. فكان الانفجار، أو ما عُرف لاحقاً بـ"الثورة الخضراء".
"رأيتُ جدّات مُلتفّات بالحجاب من الرأس إلى أخمص القدمين، وعُمالاً بثياب العمل الزرقاء، ومحاربين قدامى مصابين من الحرب على كراسيهم المتحركة، والأطفال على أكتاف الآباء. شاهدتُ كيف كانت عيونهم تتجه نحو السماء وأفواههم مستعدة لترديد أوّل هتاف. وفي أقل من ساعة، اتّحدت تلك المجموعات لتشكّل سلسلة بشرية واحدة. بجوارنا كان هناك رجلان عجوزان أخذا يهتفان: "أعيدوا إلينا أصواتنا!" وقد أمسكا بأيدي بعضهما البعض. قال أحدهما إنه لم يغادر منزله منذ عام، وأضاف: "منذ سنوات وانا أحلم بهذا اليوم. كنتُ أُغمض عيني وأبكي أحياناً وأنا أتخيّل هذه اللحظة، وها هي الآن تتجلى أمام ناظري. الآن لو مت، فسأموت بسلام".
كان هذا أحد أوصاف مُسهِبة، مُلئت بها صفحات طوال، تروي بدايات الانتفاضة المهيبة التي اندلعت عقب ما رآه كثير من الإيرانيين تزويراً لإرادتهم. أُجهض الحراك بقسوة هائلة.
في هذه الأجواء من القمع الشامل، أُبلغت دلفين بخطورة بقائها في إيران. هذه المرة ربما لن يكتفوا بالتحقيقات والملاحظات. غادرت البلاد خائفة تترقّب، ولم تستطع تصديق نجاتها حتى حطّت طائرتها في فرنسا.
تتأمّل رحلتها الطويلة، باستذكار العديد من الأفراد الذين التقت بهم وحاورتهم، وتعاطفت معهم، وكوّنت معهم علاقات ارتقت إلى الصداقة الحميمة. رأت الفرنسية أنه لا يُضاهي غموض بلاد أجدادها سوى حيويّتها. في إيران شعب مُثقل بالتاريخ، والكبرياء والتوق إلى المجد. ولكن قبل هذا، لا يطلب سوى حياة طبيعية، كريمة، مثل باقي دول العالم. ارتباط الإيرانيين ببلدهم على اختلاف انتماءاتهم السياسية والفكرية والطبقية يثير الإعجاب.
قبل خلاصة التأملات هذه بسنوات، وبالتزامن مع احتلال العراق، سُحبت من دلفين مينوي رخصتها الصحافية، لتجد في أخبار الجار ما يشغلها مؤقتاً عن "المرض الإيراني". هناك ستلتقي بصحافي أميركي من أصول إيرانية أيضاً. سيتزوجان، وبعد سنوات سيُنجبان بنتا أسمياها "سامرّا" تيمنا بالمدينة العراقية الشهيرة، لتُهديها هذا الكتاب.
اليوم، لم يعد ثمة حاجة لأحد أن يكتب إلينا من طهران، أو من أي مدينة أخرى. فها هي إيران عقب ثماني سنوات من نشر المذكرات تمرّ بموجة اضطرابات عارمة، على خلفية مقتل الشابة، مِهسا أميني، على يد "شرطة الأخلاق"، فيما يقوم الملايين حول العالم بمتابعة التطورات الآنية، دونما انتظار كتابة من أحدهم.