نحنُ في بداية 2015. لا شيء تقريباً يُثير الانتباه في المشهد الثقافي. إن كنتَ تريد مشاهدة فيلم سينمائي أو عرض مسرحي أو اقتناء كتاب جديد، فربّما سيكون عليك أن تنتظر قليلاً، أربعة أشهر أو خمسة أو ستّة. لا داعي للاستغراب، فقد أصبح بحكم العادة تأجيل كلّ شيء إلى النصف الثاني من السنة.
تبدأ الفعاليات الثقافية بمختلف أنواعها في مايو/ أيار، ثمّ تأخذ في التكاثر بشكل تدريجي، قبل أن يصل عددها إلى ذروته مع نهاية السنة. حينها، سيكون عليك أن تحسم وجهتك: إلى معرض الكتاب أم مهرجان المسرح أم مهرجان السينما أم... اختر واحداً وانس البقية. أمّا إن اخترتها جميعاً، فعليك أن تخصّص يوماً لكلّ منها.
لا شيء تقريباً يسترعي اهتماماً خاصاً في ثقافة هذه المدينة. أصبحت سُنّةً أن تقتصر النشاطات على مواسم محدّدة، على "التظاهرات الثقافية": لا أفلام تُعرض في القاعات خارج المهرجانات السينمائية، لا مسرحيات تُعرض خارج المهرجانات المسرحية، ولا كُتب تُباع تقريباً خارج معارض الكتاب. مُعظم قاعات السينما مغلقة وهذا ليس خبراً جديداً.
مبنى المسرح الوطني تدبّ فيه الحياة لعشرة أيام هي عمر "المهرجان الوطني للمسرح المحترف" ثمّ يدبّ فيه الصمت. أمّا المكتبات المتناثرة هنا وهناك، فبالكاد تجد فيها عنواناً مثيراً لرغبتك في القراءة، وهذا خبرٌ قديم أيضاً: الكتب الأجنبية لا تدخل، أمّا المحلية فلا تُوزَّع. تذهب من المطبعة إلى المخزن رأساً. وفي الطريق، قد تنجو نسخٌ بـ"كميّات محدودة" يأخذها الكاتب ليوزّعها على أصدقائه.
مع ذلك، ما زلتَ متفائلاً بإمكانية إقامة نشاط ثقافي ما في مكان ما تذهب إليه هذا المساء.. فيلم أو مسرحية أو أمسية شعرية أو معرض تشكيلي، ليس مهمّاً. تشغّل الراديو أو تفتح الجريدة. يهطل سيلٌ من أخبار السياسة والاقتصاد والرياضة: اتّهامات متبادلة، مشروع تعديل الدستور، قانون المالية الجديد، سياسة التقشّف، الانتقالات الشتوية..
لا أخبار ثقافيةً على أمواج الإذاعة، أمّا الصفحة الثقافية في الجريدة، فتُطلّ إن تركت الإعلانات مساحةً لذلك. الحقيقة أننا لا نجد ما نكتب عنه في كثير من الأحيان. يخبرك صديق صحافي نقلته جريدته من القسم الثقافي إلى تغطية محاكمة رجل أعمال متّهم بالفساد.
ومع ذلك، ما زلتَ متفائلاً. تفتحُ جريدة أخرى. تتذكّر، الآن، أن ثمّة تظاهرة ثقافية كبيرة ستنطلق في مدينة قسنطينة بعد أربعة أشهر. تحديداً في الـ16 من أبريل/ نيسان. تتساءل لماذا اختير يوم رحيل المفكّر عبد الحميد بن باديس موعداً لافتتاح التظاهرة، وليس يومُ ميلاده مثلاً. إنه السؤال التقليدي الذي كنتَ تطرحه من أيّام المدرسة، حين كنتم تحتفلون بـ"يوم العِلْم"، المصادف لتاريخ رحيل ابن باديس الذي يوُصف بـ"رائد الإصلاح في الجزائر".
تتساءل أيضاً عما إذا كانت الأشهر القليلة المتبقّية كافيةً لاستكمال التحضيرات، خصوصاً أن ما تقرأه الآن يشير إلى أن الأشغال تسير بوتيرة بطيئة، وأن بوادر سياسة التقشّف التي تلوح في الأفق قد تُلقي بظلالها على "عاصمة الثقافة العربية" التي أُسندت إلى الجزائر عام 2013. حينها، كان الاقتصاد الوطني (أسعار النفط) بخير وعافية.
قسنطينة لم تصبح عاصمةً للثقافة العربية بعد، لكن الجدل انطلق مبكّراً: اتّهامات بتغييب البُعد الأمازيغي عن التظاهرة، وانتقادات من مثقّفين وفنّانين محلّيين بسبب عدم دعوتهم بشكل كافٍ إلى عرس مدينتهم. يردّ القائمون على الاحتفالية بأن كلّ أبعاد الثقافة الجزائرية ستكون حاضرةً، وبأنه يستحيل إشراك كلّ الأسماء الثقافية فيها.
نحن في فبراير/ شباط. ما زلتَ تبحث عن نشاط ثقافي تذهب إليه هذا المساء. على "فيسبوك"، يُصادفك منشور عن رحيل آسيا جبّار (1936 - 2015). تشكّك في الأمر، فطالما كان "فيسبوك" جنّة للشائعات، من دون أن يكلّف أحدهم عناء التحقّق ممّا ينشر. عبثاً تبحث عن مصادر أخرى تؤكّد الخبر.
تعلمُ في النهاية أن بعضهم تناقله من صفحة الكاتبة وسيلة تيمزالي. تزور صفحتها فلا تجد شيئاً. تخلد إلى النوم مبتسماً، وقد تأكّدت أنها، آسيا، لم تفعلها. ولأنّك أكثر حرصاً على نشر الأخبار الدقيقة والموثوقة، تتطوّع بنشر استنتاجك الخاص: رحيل جبّار محض إشاعة.
في الصباح الموالي، ستكتشف أن الجميع كانوا على صواب، وحدك أخطأت هذه المرّة. تسأل مجدّداً، فتعلم أن تيمزالي نشرت المعلومة ثمّ حذفتها بناءً على طلب من عائلة جبّار التي أعلنت الخبر بشكل رسمي هذا الصباح.
الآن، صار بوسعك أن تقرأ الكثير عن صاحبة "العطش"، الكثير من التعازي الرسمية وغير الرسمية، الكثير من الإشادة ممّن قرأها وممّن لم يقرأها، الكثير من الحسرة على أن أعمال أوّل عربية في "الأكاديمية الفرنسية" لم تصل إلى قرّاء اللغة العربية. كان على آسيا جبّار أن تموت حتّى تتذّكرها العربية ويتذكّرها الجزائريون.. قريباً ستُقام الملتقيات حولها، وستؤسَّس جوائز أدبية باسمها.
نحن في منتصف أبريل/ نيسان. على شاشة التلفزيون الحكومي، تتابعُ بثّاً مباشراً لحفل الافتتاح الرسمي لتظاهرة "قسنطينة عاصمة للثقافة العربية". عملٌ ملحمي حاول تلخيص تاريخ المدينة، من الفترة النوميدية إلى العصر الحديث، في لوحات تجمع بين الرقص الكوريغرافي والأداء والتمثيل.
تشاهد المسؤولين في الكراسي الأمامية وهُم يصفّقون بحرارة، فتتساءل: هل أعجبهم العرضُ فعلاً؟ إلى متى نستمرّ في إنجاز هكذا "ملاحم" وما هي قيمتها الفنية بمعزل عن المناسبة؟
على صفحات التواصل الاجتماعي وبعض الجرائد، تقف على نقاش من ذلك النوع الذي لا تشاهده على التلفزيون الرسمي، تشاهد صورة لتمثال بن باديس ملقىً في إحدى ساحات المدينة، وحوله بضعة مراهقين يناولونه سيجارة ويلتقطون "سيلفي" معه.
أثار الأمر استياءً كبيراً: كثيرون رأوا أن التمثال لا يحمل أيّة لمسة جمالية ولا يمتّ بصلة إلى ابن باديس، آخرون رأوا فيه إساءة للرجل. أمّا سلوك المراهقين، فرأى فيه بعضهم دليلاً على أن الأجيال الجديدة لا تحترم رموزها، بل لا تعرفها أصلاً. بعد ساعات قليلة، تدخّلت السلطات ونقلت التمثال إلى مكان ما.
وصلنا إلى مايو/ أيار، لم يكد جدل التمثال ينتهي، حتّى أُثير جدل آخر بطلتاه زعيمة "حزب العمّال" لويزة حنّون ووزيرة الثقافة نادية لعبيدي. شنّت الأولى على الثانية حملةً تتّهمها بالفساد، انتهت بها خارج الوزارة في تعديل حكومي جاء بـ عز الدين ميهوبي الذي سيُظهر نيّة لتحريك بعض الملفّات التي ظلّت راكدةً طويلاً؛ من بينها ملفّ النشر ومشروع فيلم "الأمير عبد القادر".
يعرف ميهوبي جيّداً أن سياسة تمويل النشر التي اعتُمدت منذ سنواتٍ لم تنعكس إيجاباً على عالم الكتاب في الجزائر. بالعكس من ذلك، ساهمت في خلق ناشرين اتّكاليين (ووهميين أحياناً) لا ينشطون خارج التمويل الحكومي، ويكتفون بأموال الدعم من دون أن يوزّعوا كتبهم حتّى، بينما لا يستفيد الكاتب والقارئ شيئاً من هذا الوضع.
أمّا فيلم "الأمير عبد القادر"، فلعلّه العمل السينمائي الوحيد في العالم الذي استهلك ثلاثة أرباع ميزانيته الضخمة، من دون أن تُصوَّر لقطة واحدة منه. بدأت فكرة الفيلم منذ التسعينيات. ومنذ وصوله إلى الحكم، تبنى بوتفليقة المشروع الذي واصل تخبّطه. عشراتُ الأسماء المحلية والأجنبية طُرحت لكتابته أو إخراجه أو أداء دوره الرئيسي، من دون أن يتحقّق شيء من ذلك. أعاد ميهوبي فتح ملفّ الفيلم، حين أعلن عن اختيار جهة جديدة لإنتاجه، متّهماً المؤسّسة العمومية المكلّفة بإنجازه بالفشل.
ميهوبي سيرفع أيضاً شعار ترشيد النفقات والاستثمار الثقافي وتحويل الثقافة إلى مورد مالي يدعم الاقتصاد الوطني. بحسب الوزير الجديد، فإن الثقافة، كأيّ قطاع آخر، يجب أن تكون مُنتجةً وليس مجرّد مستهلك. ولكن كيف؟
لم يطرح الوزير تصوّراتٍ محدّدةً في هذا السياق، لكنه أبدى تحمّساً لفكرة تقليص عدد المهرجانات الثقافية التي قال، غير ما مرّة، إن عدداً منها صرف أغلفة مالية كبيرة وقدّم نتائج هزيلة، مُؤكّداً أن بعضها سيُنظّم كل سنتين، بدل كلّ سنة، بينما سيُلغى بعضها الآخر.
ضمن هذا الاتجاه، كشف الوزير عن التحضير لقانون جديد لضبط الجوانب التنظيمية للمهرجانات، ومراجعة أعبائها المالية، ضمن ما أسماه "رؤية جديدة تقوم على تعزيز المنفعة الاقتصادية لقطاع الثقافة". وتحضيراً للقانون، عيّن لجنةً وزارية شرعت في تقييم المهرجانات المُقامة في مختلف المحافظات، لتحديد تلك التي ستستمر وتلك التي ستُقلّص أو يتمّ إلغاؤها بشكل نهائي.
ومع أن "ترشيد النفقات" يأتي ضمن سياسية التقشّف التي أعلنتها الحكومة منذ نهاية 2014، إثر تهاوي أسعار النفط في الأسواق الدولية، إلاّ أن ميهوبي – الذي تتمتّع وزارته بالميزانية الأعلى لوزارة ثقافة عربياً وأفريقياً - قال إنه كان سيتخذ تلك القرارات "حتّى وإن كان سعر برميل النفط يبلغ 150 دولاراً".
ووسط توجّه إلى تخفيض المهرجانات التي يصل عددها إلى 200 مهرجان، بين محلي ووطني وثقافي، عمد ميهوبي إلى إلغاء "مهرجان السينما المغاربية" الذي كان أحد الفعاليات السينمائية البارزة في الجزائر العاصمة خلال السنتين الأخيرتين، مفضّلاً إدماجه في "مهرجان عنّابة للفيلم المتوسّطي"، الذي عاد في كانون أوّل/ ديسمبر، بعد غياب استمرّ لأكثر من عقدين.
ومع ذلك، ستصل نهاية السنة وتجد نفسك أمام زحمة مهرجانات، وسيكون عليك أن تحسم وجهتكَ مساءً. أمامك عشرات المهرجانات المُقامة في فترة وجيزة لا تتعدّى 15 يوماً، وعليك أن تحقّق معجزة لحضور أكبر قدر منها، في انتظار بداية عام جديد مقفرة.
اقرأ أيضاً: المغرب 2015: تحوّلات نيئة وسياسات مطبوخة