في مشاهد درامية لا تخلو من الافتعال، بثّت شاشات الفضائيات، العربية والأجنبية، على مدار 2015، مشاهد تدمير آثار الحضارات التي نشأت في الوطن العربي، تلك الآثار التي تؤرّخ لمراحل الحضارات العربية المتوالية منذ أقدم الأزمنة، بدءاً من حضارة اليمن، فمصر القديمة، فالعراق، فالشام وصولاً إلى المرحلة الإسلامية التي ورثت كل هذه المنجزات وأضافت إليها، لغةً وأدباً وفناً وعلماً ونظماً اقتصادية وإدارية.
لكن القليل من هذه الشاشات كشف أن جزءاً كبيراً ممّا يجري تدميره ليس سوى نسخ مصنوعة عن مثيلاتها الأصلية، أمّا النسخ الأصلية فهي موضوع سرقة وتصدير لتُباع في الأسواق السوداء وغير السوداء، وهو دليل على أن اللصوص والنهّابين تقف وراءهم منظّمات خبيرة يعرف أصحابها ما يريدون، وأن هذا النهب يتّصل بنَسَب بتلك العملية التي بدأت مع توافد البعثات الغربية إلى الوطن العربي قبل ثلاثة قرون، والكشف عن آثاره المطمورة، ثم تصاعدت مع اتساع حركة استعمار هذا الوطن، فحدثت أكبر عملية نهب وسرقة لتراثه، تواصلت لمدّة تخطّت القرن والنصف طولاً، فنهبت الآثار العراقية والسورية والمصرية.. إلخ، وتزيّنت متاحف الدول الاستعمارية بآثار مصر القديمة وسبأ وبابل وآشور وفلسطين ومدن الساحل السوري.
يمكن العودة بدورة السرقة والنهب الجديدة إلى بدايات تفكّك الاتحاد السوفياتي، فهناك بدأت تمثّل على مسرح خفي ومجهول عمليات سرقة آثارنا العربية على وجه الخصوص.
وأذكر من تلك الأيام التي سادت فيها فوضى طاغية، أنني حين سألتُ أمينة قسم المخطوطات الشرقية في مكتبة الأخوين كيريل وميثودي في صوفيا عن مخطوطات معينة موجودة في هذا القسم، طلبت مني الدخول بنفسي إلى غرفة المخطوطات لأنها لا تجيد العربية، وقالت "فتش كما تشاء".
قبل ذلك كنتُ قد طلبتُ الاطلاع على مخطوطة لأحد المتصوفة المجهولين أشير إليها في فهرست غير كامل، فجاءت المخطوطة، لأكتشف أن مجلداً واحداً ضمها مع مخطوطات أخرى لغتها تركية وفارسية. أي أن أمينة المكتبة تلك لم تكن وحدها من يجهل العربية هناك، بل يبدو أن هذا الجهل تعمم في ظل الفوضى التي أمسكت بأطراف الحياة في تلك الدولة الاشتراكية سابقاً.
هذه الوضعية التي أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تنم عن لامبالاة وإهمال لم تعرفها مكتبات الدول الاشتراكية التي احتفظت بكنوز تراثية عربية قبل أن تنهار نظمها السياسية ومعها قيم ومعايير تمس الثقافة والموروثات، فتطال في ما طالت هذه الكنوز.
من المعروف لدى المختصّين أن معاهد ومكتبات الدول الاشتراكية حصلت على عدد وافر من مخطوطات التراث العربي وتحفه الأثرية، ليس بسبب جهود الدبلوماسيين والعسكريين والباحثين فقط، بل أيضاً بسبب وقوع عدة بلدان آسيوية وشرق أوروبية في نطاق نفوذها السياسي والعسكري، وهي بلدان تجمّعت في مساجدها ومدارسها ومباني أوقافها مخطوطات عربية نادرة، وتحف فنية، ظلّت لسنوات طويلة أدوات تعليم وقراءة.
وانتقلت هذه الكنوز بعد وضع اليد عليها إلى الجامعات ومعاهد الدراسات الشرقية، ووُضعت بين أيدي الباحثين.
لم يتساءل أحد، على حد علمي، عن مصير هذه الكنوز في ظلّ تحلّل القيود والروابط القديمة، وحلول نهم التسويق والمتاجرة محل الثقافة والتعليم في الدول الاشتراكية السابقة، ولا خرج أحد بإحصاء رقمي للخسائر التي ألمّت بمحفوظات "معهد الاستشراق" في لينينغراد (بيترسبورغ حالياً) إثر حريق مشهور متعمّد حدث قبل سنوات، في تلك الأيام التي اكتنفها الغموض.
ولكن جميع الظروف التي اجتمعت بعد سيادة اقتصاد السوق والنزعة الفردية تشير إلى أن هذه القلاع التي كانت موضع عناية واعتزاز العلماء من مستعربين ومستشرقين، تعرّضت إلى التدمير والإهمال والنهب.
وأتذكر أن أحد عتاة تهريب المخدرات التقيته في تلك السنوات مصادفة في مقهى بعد أن قضى في السجن خمس سنوات، اعترف أنه يستند، هو العربي/الكردي، في نشاطه على مافيا إيطالية، وقال لي، ولكنه سيكف عن هذه المهنة الخطرة، وأنه سينقل نشاطه المافيوي إلى المتاجرة بالعاديات الأثرية المهربة؛ المخطوطات والتحف.
وكان هذا المهرب كما يبدو قد تشمم رائحة الأجواء القادمة مع هبوب رياح عودة دول الغرب الاستعمارية إلى غزوات القرون السالفة، إلى استباحة القارات مرة أخرى، وتدمير ما تبقى من مظاهر حضارية عربية وغير عربية،
هذا نفسه ما يحدث الآن علناً ومن دون غطاء، مثلما كان يحدث في الماضي. فوراء جيوش المرتزقة التي تندفع لتدمير ومحو كل ما هو حي في الوطن العربي، تتسابق عصابات تهريب ونهب آثار حضارات الماضي العربي، أي ذاكرة هذا الوطن وعروته الوثقى.
اقرأ أيضاً: حجر مؤاب.. قصة اختلاق حضارة