ليس 2015 واحداً من أسعد أعوام الثقافة المصرية، فإضافةً إلى غيابات بعض مبدعيها بسبب الموت، وإحالة آخرين منهم إلى محاكمات بتهمة إبداعهم ليس غير، هناك التضييق على منصّات فنية وثقافية عديدة وإرهاب من فيها، إلى الحد الذي وصل إلى إغلاق بعضها في نهاية العام.
وهناك فوق ذلك: الصمت. لا الوسط الثقافي المستقل يتكتّل في حركة منظّمة دفاعاً عن مكتسباته، ولا نسمع من وزير الثقافة شيئاً، وهو الذي كان يملأ الدنيا ضجيجاً في كتاباته - إبان حكم الإخوان المسلمين - محذّراً من "عداء الإسلام السياسي للثقافة والفن"، وهو الأمر نفسه الذي لم تتورّع عن ممارسته الأجهزة الأمنية حالياً في الحكومة التي ينتمي إليها.
هنا نظرة عامة، لا تخلو من الاختزال، لحال الثقافة في مصر في العام المنصرم.
لا يمكن الحديث في القاهرة الآن عن كتب أحدثت زخماً شرائياً وضجّة ثقافية حولها، سوى الكتب الموسوم أصحابها بكتّاب الأكثر مبيعاً، والتي يندرج معظمها في خانة الكتب البسيطة التي ترتبط حصراً، في ثقافات أخرى، بقراءات الصيف التي لا تحتاج مجهوداً ذهنياً يذكر.
مع ذلك، هناك بعض الإصدارات التي رفدت سوق الكتاب المصري ببعض الأعمال المهمة المعاد طباعتها، كالسلسلة التي اختارتها "دار الكرمة" ووضعتها تحت عنوان "مختارات الكرمة"، منها، على سبيل المثال، بعض أعمال الكاتب بدر الديب، قليل الصيت في غير الوسط الثقافي المحدود، نذكر له "حديث شخصي، أربع تنويعات" و"إجازة تفرّغ".
كذلك رواية "الرحلة" لـ فكري الخولي، التي يصوغ فيها تحوّلات الريف المصري في العشرينيات بعين عامل يترك قريته ليلتحق بمصنع الغزل والنسيج المقام وقتها في مدينة المحلّة الكبرى إثر تحوّلها إلى مدينة صناعية، إلى جوار كتاب "شخصيات حية من الأغاني" لـ محمد المنسي قنديل الذي يمارس فيه تناصاً ولعباً على كتاب الأصفهاني، يحاور من خلاله شخصيات "الأغاني" ويستنطقها بصورة عصره وحكاياته.
في السياق نفسه، لا ينتهي العام حتى تعيد "دار الشروق" إصدار بعض أعمال الروائي التركي أورهان باموك، في طبعة مصرية أولى، من هذه الأعمال "إسطنبول" و"اسمي أحمر" و"البيت الصامت"، ثم أولى الترجمات العربية لروايته الجديدة "غرابة في عقلي".
كتاب آخر يبدو مهماً في بابه وجامعاً، هو "القاهرة - خططها وتطوّرها العمراني" لمؤلفه أيمن فؤاد سيد، والذي صدر عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، وهو في الحقيقة سِفر في ثلاثة مجلدات مشفوعة بالخرائط والصور. كذلك صدرت طبعة جديدة عن الهيئة ضمن مشروع "مكتبة الأسرة" من كتاب "الأرشيف السرّي للثقافة المصرية" لـ غالي شكري، والذي يسلّط الضوء على واحد من المواضيع الشائكة دوماً، علاقة المثقفين بالسلطة.
وفي ما يبدو أنه بارقة تفاؤل وسط حالة من انسداد الأفق، استقبلت مكتبة مؤسّسة "تاون هاوس" في وسط القاهرة الشاعرة المصرية المقيمة في كندا إيمان مرسال، في برنامجها "على كنبة تاون هاوس"، والذي تستضيف فيه المكتبة، شهرياً، كاتباً أو فناناً ليتحدث عن تجربته ومسيرته.
لا تتّسع قاعة المكتبة لأكثر من خمسين شخصاً، لكن نظراً إلى ما أبداه كثيرون من رغبة في حضور الأمسية، قرّرت إدارة المكتبة استضافة إيمان في مسرح "روابط" الذي يتّسع لأضعاف هذا العدد. كان لافتاً رؤية المسرح يكتظّ بالجالسين والواقفين الذين جاؤوا لسماع مرسال والشعر.
شهد العام أيضاً رحيل ثلاثة من الأسماء البارزة في الوسط الثقافي، أولهم الروائي جمال الغيطاني، وثانيهم المترجم والناقد خليل كلفت، ثم الروائي إدوار الخرّاط. كان قد صدر للأول، قبل رحيله بأشهر، كتاب "حكايات هائمة" عن دار "نهضة مصر"، والذي جمع فيه نصوصاً قصيرة وحكايات عن كتب وقدّيسين وكهنة وأناس عاديين.
أما كُلفت، فقد صدر له بعد رحيله طبعة جديدة من كتابه "من أجل نحو عربي جديد" الذي تدور فكرته الرئيسية حول اعتبار أن النحو العربي هو علم بناء الجملة العربية وليس علم أحوال الإعراب.
فيما كان مؤتمر "مقترحات لوضع إطار للسياسة الثقافية في مصر" مقاماً في مكتبة الإسكندرية، يوم 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، كختام لمشروع "دعم التنوع الثقافي والابتكار في مصر"، المموّل من الاتحاد الأوروبي، كان الروائي أحمد ناجي يواجه، إلى جانب طارق الطاهر، رئيس تحرير "أخبار الأدب" القاهرية يواجهان اتهامات بـ "نشر مادة كتابية "نفث فيها شهوة فانية ولذّة زائلة، وأجّر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكاً لحرمة الآداب العامة، وحسن الأخلاق، والإغراء بالعهر خروجاً على عاطفة الحياء"، كما أشارت النيابة في عريضة الاتهام الموجهة للكاتب.
كانت "أخبار الأدب" نشرت في آب/ أغسطس من عام 2014 فصلاً من رواية ناجي "استخدام الحياة"، لكن مواطناً مصرياً في 2015 قرأ الفصل المنشور، فقدم بلاغاً للنيابة قال فيه إنه "أصيب باضطراب في ضربات القلب، وانخفاض في ضغط الدم، وتعرّض إلى وعكة صحية شديدة".
ولم يكن كلام المدّعي أكثر سخرية من عريضة النيابة وكلام ممثّليها الذين استخدموا بلاغة خطابية فارغة المضمون واستعاروا لغة القرون الوسطى لمحاكمة الخيال. أُجّل النطق بالحكم في هذه القضية لجلسة يُفترض أن تُعقد اليوم (2 كانون الثاني/ يناير 2016).
في السياق نفسه، لم تسلم المؤسسات الثقافية هي الأخرى من الملاحقات والاقتحامات، وكلها تأتي بحجج ملفقة وتحت ستائر شرطة المصنّفات الفنية لمصادرة جهاز كمبيوتر أو برنامج غير مرخّص، بينما ينكشف الأمر في الأخير عن وجه الدولة المعادي للثقافة والمثقفين، وتُغلَق المؤسسات الثقافية المستقلة، أو في أقل الأحوال إشهار عصا السلطان.
بدأ الأمر في تشرين الثاني/ نوفمبر باقتحام مقر "مركز الصورة المعاصرة"، المعني بفن التصوير الفوتوغرافي، في وسط القاهرة، والقبض على أحد العاملين فيه بحجة المصنفات الفنية ذاتها، ثم في كانون الأول/ ديسمبر، تم اقتحام مقر مؤسسة "تاون هاوس" في وسط القاهرة، أيضاً استناداً إلى الحجة السالفة، ثم أُغلقت المؤسسة مع "مسرح روابط" التابع لها بقرار مفاجئ في اليوم نفسه.
في اليوم التالي لإغلاق "التاون هاوس"، جرى اقتحام "دار ميريت"، وصادرت شرطة المصنفات الفنية بعض الأجهزة الإلكترونية. بدا الأمر في تواليه مخطّطاً في محاولة من الدولة لغلق كل المنافذ قبل ذكرى الخامس والعشرين من يناير، ومعاقبة كل المؤسّسات المعروفة بتوجّهها الثوري المناهض للنظام.
بينما كانت السلطات تشدد قبضتها الأمنية على المثقّفين الأحياء، التفتت، من جهةٍ أخرى، إلى عدد من الأموات لـ "تكريمهم"، من خلال ترميم تماثيلهم. في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، "رُمّم" تمثال نصفي في أسوان "يجسّد" عبّاس محمود العقّاد، لكن رداءة ترميمه أثارت موجة من النقد والسخرية، وهو ما ينطبق أيضاً على تمثال الملكة نفرتيتي المشوّه والذي تحوّل إلى طرفة على وسائل التواصل الاجتماعي.
اقرأ أيضاً: أزقّة عربية في نيويورك 2015