البحث عن دمشق

27 مارس 2015
دمشق، ساحة المرجة في الخمسينيات
+ الخط -

فيما كان الشاعر العربي الحديث قد اعتاد هجاء المدينة، سواء عبر المثاقفة والنقل عن الهواجس الشعرية العالمية، أو عبر التجربة المرة الناجمة عن صدمة المواجهة، التي افتقرت إلى الحب أو التفاهم، مع مكان يتسم بعنفه وتضييقه على حرية التعبير والحركة والعيش، فإننا نرى أن الشاعر السوري شوقي بغدادي يعلن في ديوانه "البحث عن دمشق" أن ما يكتبه هنا ناجم عن حبه لمدينة تركت أثرها في وجدانه الشعري، فيما بدأت معالمها الأصيلة، كما يقول في المقدمة القصيرة التي بدأ بها الديوان، تختفي أمام الزحف الأخرق لحضارة هجينة "هاهنا السر/ فإن كانت دمشق مبدأ التاريخ/ فأنا الآن على الأطلال أبكيها".

يعمل الشعر هنا في خدمة الحنين إلى المدينة، أو إلى زمان المدينة المهددة، فيما يسعى الشاعر لتقصي آثار الفاجعة على الأرض.

يكتب شوقي بغدادي ديواناً كاملاً في دمشق، وهو عمل غير دارج في الشعر العربي الحديث من حيث النظر إلى المدينة كمكان رمزي، يمكن تحميله دلالات فكرية أو نفسية، كأن يقول أدونيس أن دمشق "امرأة مليئة العروق بالغابات والوحول" أو أنها "عارية ضائعة الفخذين". أو يقول محمود درويش "يا امرأة لونها الزبد العربي الحزين" بينما يتتبع شوقي معالم مدينته واحدة بعد أخرى، كاشفاً آثار الخراب الذي لحق بها.

اللافت أن ما يمكن أن يسميه عشاق المدينة، الذين يهديهم الشاعر ديوانه، بكاء طللياً، أو حنيناً حزيناً إلى مدينة تتحول في خطط التحديث العمراني إلى أنقاض محطمة، تتبدى في تدمير ومحو الأمكنة الممتلئة بذلك الزمان القديم، إذ لم يبق في بردى "سوى ماء النفايات/ وإنتان الرطوبة". أو أن في الغوطة "تضاءلت الحبة في شجر المشمش" أو أن الجد قاسيون "لم يبق متكأٌ فوق ظهره".

يضحي اليوم في القراءة المطابقة للزمن، بعد ثلاثة عشر عاماً من تاريخ صدور الديوان، رسائل تحذيرية مبكرة، وأوراق نبوءات تتمكن من اختراق القادم، وقراءة أسراره، لا بشأن الدمار المادي لمعالم المدينة، وذكرياتها الراسخة، بل في ما يخص التعدي على البشر. فـ: "الزحف الشامي المكسور الخاطر/ ضل على الطرقات/ فتراجع عند مساء الجمعة/ وهو يشيع تابوتاً ضخماً/ قرب الباب الشرقي/ من دون أكاليل/ سوى نظرات الشك/ وصرخات الذعر المكتومة/ خوف مزاج يتعكر/ لا تعرف كيف/ ولا أيان تدوي الطلقات". أو "هيا.. لملموا أغراضكم/ واختبئوا هذه المرة عن جد/ فلم يبق من اللعبة إلا الخوف/ من أن يسقط الكذاب في فخ السؤال".

ويماثل المكتوب عن الماضي الحاضرَ، كأنَّ الشعر يسبق الشاعر في تفحص الأحداث، أو في قراءة أحوال المدينة، فيمتنع عن الغرق في الحنين المرضي، ويعيد إنتاج المكان، أو الزمان، كي يخلق التحدي المناهض للخراب: "يا مال الشام/ ارفض دورك/ وارجع للمقهى المتصدع/ عند الدوار/ ارجع للحكواتي الصامت/ ينتظر إشارتك/ ليطلق عنترة من الأسر/ ويبرئه من تهمة تهريب الموز، وتسخين الأفكار".

دلالات
المساهمون