استمع إلى الملخص
- يتجلى حوار مفتوح بين الفنان والمادة الخام، حيث يستفز المتلقي لإعادة تصور العمل الفني كشريك في تنفيذه، كما يظهر في عمل "انعكاس" الذي يعكس الصلة القلقة بين الإنسان ووجوده المديني.
- تتبلور المقاربة البصرية لمفاضلة في تعاقب الموت والبعث في المادة، كما يظهر في أعمال مثل "نهر الأردن" و"شاهد"، ومنحوتات تجسد الجسد البشري بملامح مجردة.
يجذبك عند دخولك معرض "أثر على أثر" للفنان والناقد التشكيلي الأردني غسان مفاضلة (1964)، في "المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة" بعمّان، عمل فني يتألّف من ستّة أعمدة خشبية متوازية مطلية بألوان وأكريليك وثبّتت عليها زنبركات (نوابض معدنية) تذكّرك باستخدامها في الأثاث، قبل نحو ثلاثة أو أربعة عقود، وربما يندر العثور على تصميمها نفسه اليوم.
الزنبرك عنصرٌ مألوف لدى العديد من زوّار المعرض، الذي افتُتح منتصف الشهر الجاري ويتواصل حتى الثلاثين منه، قبل أن يعاد استعماله وفق علاقات بصرية جديدة مع عناصر أخرى لتشكيل عمل فنيّ يحمل عنوان "6×7"، لاحتواء كلّ عمود من الأعمدة الستّة ثقوباً سبعة في إشارة إلى مقاييس النزعة المركزية السبعة في علم الإحصاء (الوسط الحسابي، الوسط الموزون، الوسيط، والمنوال...) لكن تكسُّر أحد الأعمدة أفقده ثقبين، ما استدعى من الفنّان كسر هذه المعادلة الرياضية جمالياً في عمود ثانٍ مبقياً ثلاثة ثقوب فقط.
تمتلك المادة "إغراءات" تحفزّ الفنان على خلق حواره معها
حوارٌ مفتوح بين مفاضلة وبين المادة الخام التي يتعامل معها، ضمن عملية متراكمة دائمة، وتشكّل جزءاً أساسياً من ذاكرة العمل الفنيّ، وتستفزّ المتلقي على إعادة تصوّرها وتمثّلها بوصفه شريكاً في تنفيذه، وهو استدراج متقصّد، من أجل تمكين أي متلقٍّ من تخيّل اقتراحات جمالية؛ إضافة أو حذفاً أو تعديلاً على تكوين العمل، وهنا تتجلّى اللعبة في إعادة بناء لا تنتهي.
لعبة تفترض الذهاب نحو الفنّ بلا تخطيط مسبق، أو استناداً لمفاهيم وأفكار جاهزة، إذ تمتلك المادّة "إغراءات"، بحسب وصف الفنّان، تحفّزه على خلق حواره معها الذي قد يطول لسنوات عديدة؛ إغراءات تتّصل بتكوينها الطبيعي وشكلها، وأحياناً بالصدأ عند تعامله مع الحديد، المادة الأثيرة لديه، نظراً إلى مطواعية تشكيله باليد أو بالماكينة، كما تبرز طبقات الزمن بوضوح على سطحه، توحي بأثر المادة خلال عملية تشكّلها، منذ أن كانت في الطبيعة إلى أن وصلت إلى صالة العرض.
الأثر الذي يعيد تصوّر المكان الأول الذي وُجدت فيه المادة الخام، ثم في انتقالها إلى مشغل الفنان، حيث تكتسب شكلها وحركتها من دون قسر وإجبار مسبقين، وتندغم فيها قصة تكوين العمل ضمن سياق يحفظ روح المادة/ روح الطبيعة الأم، متفاعلاً مع حدوس الفنان واجتهاده، وتساؤلات المتلقّي التي تتدفق حول كل التموضعات الحقيقية والمتخيلة للمادة/ المواد المستخدمة التي أسّست سردية العمل في لحظة عرضه.
وفق هذا المنظور للفنّ، فإنّ المادة تصنع حضورها عبر شكلانية تقودها عملية الإنشاء التي تعني تأمّلاً عميقاً في اختبار احتمالات تدوير العناصر وإعادة تركيبها، بتلقائية وعفوية في التجريب تؤول إلى الاختزال والرغبة في استكشاف تلك البدئية في معنى الخلق رغم دلالاته المعقدة والمختزنة لخبرات ومرجعيات بصرية متعددة، كما نلاحظها في عمل "انعكاس" (صوت وصدى) حيث أنشأه من ألواح من الخشب تحتوي دوائر مُفرغة فوق الخشب مع الأكريليك.
في هذا الانعكاس، نسترجع في تكوين العمل الذي يقترب من عمران المدينة محاط بسواد فاحم، تلك الصلة القلقة بين الإنسان ووجوده المديني، وسط تاريخ من الحروب والاضطرابات والاغتراب، وغيرها من التصوّرات المحكومة لبنيةٍ تجريدية محتشدة بالتخيّلات والانزياحات عن الواقع الذي اشتّقت منه، أو تسعى للاقتراب منه.
تجريدٌ لا ينفصل عن بحث محموم في جوهر المادة وتحولاتها، يتكثّف في عمل آخر بعنوان "مدارات" نفّذه مفاضلة من مواد مختلطة، تتوسطّه دائرة حمراء اللون تحطيها دائرة بيضاء أخرى ويلفّهما الأزرق، وفوقها مئات شطرات (أجزاء) من الستائر، على بعضها رمال وبلاستيك مطحون، ترمز إلى نشوء الكون، وتقادم الزمن، وحلوله في الليل والنهار، وطوفان الإنسان حول دوائر في مدارات طقسية وغيبية، وكل ما ينبعث عنها من إحساس بما وراء الطبيعة.
يتوقف الزائر طويلاً عند الأعمال التي تحمل عنوان المعرض؛ أثر على أثر، مع تبلور أعمق للمقاربة البصرية الأساس لدى مفاضلة، في تعاقب الموت والبعث في المادة التي تتصدع وتتشقق وتتحور على السطح، وما تنتجه من حدود مرئية وغير مرئية، وحرية لا نهائية في تدوير الأشياء، وتوليد حركتها وإيقاعاتها في نسقٍ جمالي متفرّد لا يقع في فخاخ التقليد والمحاكاة.
ودون تكلّف وعناء في طرح المضامين الفكرية والسياسية، يركّب الفنان عملين باسم "نهر الأردن". في الأول، تظهر أسنان مناشير حديدية مصفوفة فوق الخشب، حيث زرقة الماء بين ضفّتين؛ شرقية وغربية، بلا استطرادات حول الاحتلال المهجي المتوحّش الذي يتربص بالشعبين في كلتا الضفتين، بينما يضع مفاضلة تشابكات من الفولاذ على خشب وزنك في العمل الثاني على خلفية زرقاء، مثبتاً المقولة ذاتها أيضاً.
وبالمصادفة، يعرض بين العملين "شاهد"؛ المكوّن من حديد وإسمنت وزنك وزجاجي، في أبلغ مشهد للتعبير عن مئة عام من الشهادة على العدو، وتداعيات الصراع معه، في عمل نصبي يرتفع متراً وخمسة وسبعين سنتمتر عن الأرض، وربما كان شاهد قبرٍ من آلاف احتضنتها البلاد.
ثلاثة منحونات في وسط الصالة، أولها لجسدٍ يختزله الحديد بملامحه المجردة التي تحتفظ بعلامات الزمن، والثانية لـ"أوديب في عمّان"؛ اسم لجسد آخر من الحديد، بينما تحطّ "العنقاء" بتعبيرات تتمازج بين بشريّ وطائر وجذع شجرة؛ ينشغل مفاضلة في تشكيلها بجوهر الجسد كما في أعمال أخرى بالمعرض، بلا تمييز لحدود فاصلة بين الذكورة والأنوثة، حيث الحدة والخشونة تتلاقى مع النعومة والرقّة.
ورشة عمل أنشأها الفنان منذ التسعينيات، مجاوراً بين الكتابة النقدية والممارسة الفنية، ومخلصاً لهواجس اختبرها حول مسائل حرجة، مثل ماهية الفن، واشتباك الفن مع البيئة والمحيط، ووظائف الفنون المعاصرة، وانعكست في مقالاته الصحافية وكتابه "خزائن المرئي: مشهد نقدي في الفنّ العربي المعاصر" (2017)، ومعارض معدودة ارتضى إقامتها، تترجم ما اجترحه من علاقات بصرية جديدة، ولذته في اكتشافها.