مشاعر اكتئاب ما بعد الولادة؛ خوف وقلق من المسؤولية الجديدة أصابت نهى، وأسئلة لا حصر لها دارت في بالها وهي تحمل طفلها للمرة الأولى بين ذراعيها في المستشفى. شعرت للمرة الأولى بفقدان هويتها، هل هي الفتاة ذاتها التي كانت تلعب في منزل عائلتها؟ أم أصبحت امرأة أخرى عليها الاعتناء بكائن صغير، وتلبية احتياجاته؟
التجربة لم تكن سهلة، بحسب نهى، ورغم تلقيها المساعدة من أمها، إلا أن توترها الشديد استمر، وتفكيرها الدائم بما ينتظرها في الأيام المقبلة، وكيف ستتصرف. إنها فترة كآبة مرت بها نهى بعد الولادة لم تكن بالغة الخطورة، وتمكنت من تخطيها بعد فترة وجيزة.
على عكس الاكتئاب ما بعد الولادة الذي أصاب فرح، التي فقدت الشهية بسبب توترها الشديد، وأصيبت بأوجاع في العظام، ولم يتحسن مزاجها إلا بعد زيارتها لمعالج نفسي. وتعيد فرح أسباب اكتئابها بعد الولادة إلى معاناتها في صغرها من انفصال والديها، لذلك عاشت صراعاً بعد ولادة ابنتها بين الماضي والحاضر، مع خوفها وقلقها من المستقبل.
أنواع اكتئاب ما بعد الولادة
حالات كثيرة تعيشها السيدات بعد الولادة، مشاعر خوف وقلق وانزعاج وبكاء لساعات دون سبب أحياناً، ويصبن بمشاكل نفسية وأحياناً جسدية، وهو ما يعرف بحالات اكتئاب ما بعد الولادة.
ويفرّق العلماء بين كآبة ما بعد الولادة Babyblues ويسمونه أيضاً حزن ما بعد الولادة وهو نوع من الاكتئاب الخفيف، وبين اكتئاب ما بعد الولادة postpartum depression الذي يكون حاداً وخطراً على الأم والمولود الجديد أحياناً.
وتشير جمعية علم النفس الأميركية في تقريرٍ لها العام الماضي، إلى أن ما يقارب من 16 في المائة من الأمهات يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة الخطر. وتكمن صعوبة هذا الاكتئاب في أن المرأة تبدأ بالتفكير بأذية نفسها أو حتى طفلها، لأنها تجد صعوبة في تحقيق الارتباط الحميم به، ما يؤدي إلى شعورها بالعار والذنب وعدم أهليتها لأن تكون أمّاً.
اكتئاب ما بعد الولادة الحاد
يرى دكتور الأمراض النفسية والعصبية أحمد عياش، أن "اكتئاب ما بعد الولادة يتخذ أشكالاً مختلفة بحسب شخصية كل أم، ومحيطها الاجتماعي"، ويقول لـ"العربي الجديد": "تكون عوارض الاكتئاب خفيفة وناعمة عند معظم الأمهات، لكنها تكون أكثر حدة عند أخريات، وتتسم بالعدوانية، وتشكل خطراً على المولود، ويعود السبب في ذلك إلى مشاكل نفسية تعانيها الأم".
ويضيف: "في حال شعور الأم بالكآبة الحادة، وعدم تقبلها لمولودها الجديد، تعمد في بعض الأحيان إلى أذيته، إذ إنها تفكر دوماً بطريقة انتقامية، وتعتبر أن مولودها الجديد سيتسبب بفشل حياتها المستقبلية، وهنا لا بد من إبعاد الطفل عن والدته، أو السماح لها بالجلوس معه وسط العائلة".
ويؤكد عياش أن دعم الأهل والمحيط الاجتماعي يلعبان دوراً كبيراً في تخفيف حالة الاكتئاب التي تمر بها الأم، خصوصاً إذا كانت تلك العوارض ناعمة، أما في حالة الاكتئاب الشديد، وعدم رغبتها بوجود الطفل، يجب الاستعانة بطبيب نفسي ليعالج الأم ويساعدها على تقبل حياتها الجديدة".
أسباب الاكتئاب ما بعد الولادة
تشير الطبيبة النسائية ماري جبر في حديثها لـ"العربي الجديد"، إلى أبرز سببين لاكتئاب ما بعد الولادة، وهما:
1- التغيرات الهرمونية: إن انخفاض مستويات هرمون الأستروجين والبروجستيرون، إضافة إلى انخفاض إفرازات الغدة الدرقية، من العوامل التي تؤدي عادة إلى إصابة الأم بالتعب، خاصة إذا ترافقت مع إرهاق جسدي وفكري. فالتغيرات الهرمونية السريعة وتغير ضغط الدم، تسبب اكتئاب ما بعد الولادة.
2- التغيرات الفيزيائية: تلعب التغيرات الفيزيائية دوراً في زيادة حدة اكتئاب ما بعد الولادة، إذ تترافق مرحلة الحمل والولادة مع تغيرات جسدية، ما يؤثر سلباً على نفسية الأم، فالألم الذي تعيشه أثناء الولادة، وعدم فقدانها للوزن بعد الولادة، كلها عوامل تزيد حالات الاكتئاب عند الأم.
غير أنّ هناك أسباب أخرى لا تقلّ أهمية تذكرها الدراسات الطبية المتخصصة ومنها:
3- العوامل النفسية: تلحظ دراسة صادرة عن المركز الوطني لمعلومات التكنولوجيا الحيوية في الولايات المتحدة عام 2017 أن تعرض المرأة لنوبات من الاكتئاب في فترات حياتها، يزيد من احتمال إصابتها بالاكتئاب ما بعد الولادة.
4- المخاطر خلال الحمل والولادة: تشير منظمة الصحة الأميركية إلى أن المخاطر التي تتعرض لها النساء أثناء الولادة تساعد في زيادة حدة الاكتئاب لاحقا، وتعتبر أن الولادة المبكرة، أو تعرض النساء إلى مشاكل صحية خلال الحمل، ودخولهن المتكرر إلى المستشفيات يؤدي إلى رفع معدلات الاكتئاب بعد الولادة. كما تُبين تقارير المنظمة أن السيدات اللواتي لم يرغبن بالانجاب، أو كانت لديهن تحفظات على الحمل، يتعرضن إلى اكتئاب حاد بعد الولادة. وبحسب دراسة أجرتها مجموعة من الأطباء في الولايات المتحدة، ونشرت في المجلة الطبية الأميركية، بعنوان "عوامل الخطر لأعراض الاكتئاب أثناء الحمل"، يظهر أن النساء اللواتي يلدن ولديهن طفل أو أكثر تزيد لديهن حالات الاكتئاب.
5- العوامل البيولوجية: خلصت دراسة نشرت عام 2013 في المجلة الطبية الأميركية بعنوان "عوامل الخطر الاجتماعي للاكتئاب في فترة ما بعد بالولادة" إلى أن سن النساء له علاقة أيضاً بحالات الاكتئاب، معتبرة أن النساء اللواتي تراوح أعمارهن بين 13 و19 عاماً هن أكثر عرضة للاكتئاب، أما النساء بين 31 و41 عاماً فيسجلن أدنى معدلات الإصابة بعوارض الاكتئاب، في حين تبقى الفئة العمرية من سن 19 إلى 30 عاماً معرضة للاكتئاب ولكن بدرجات متفاوته. وتعللّ الدراسة السبب بأن النساء بعد سن الثلاثين يصبحن أكثر نضجاً ويتمكّنَّ من مواجهة مشاكلهن النفسية والعمل على حلها، في المقابل، تخشى النساء الصغيرات من عدم قدرتهن على مواجهة أحاسيسهن.
6- عوامل اجتماعية: يساعد الدعم الاجتماعي المتمثل بالدعم العاطفي والمالي في الحد من اكتئاب ما بعد الولادة. ولحظ المؤتمر الدولي للسكان والتنمية أن قدرة المرأة على اتخاذ القرار في المنزل والدعم المتزايد من الشريك يعتبران الحل الأكثر أهمية لتعزيز الصحة الإنجابية للمرأة. في حين أن العنف الجنسي وغيره من أشكال العنف المنزلي أثناء الحمل تسهم في إصابة الأم بالاكتئاب. ويعتبر عمل المرأة من العوامل الاجتماعية التي تخفض حالات الاكتئاب، أما انخفاض مستويات التعليم والدخل فيزيدان من خطر الإصابة بالاكتئاب ما بعد الولادة.
7- نمط الحياة: تؤثر عوامل تناول الطعام، وحالة النوم، والتمارين الرياضية والأنشطة البدنية على اكتئاب ما بعد الولادة. وبحسب دراسة المركز الوطني الأميركي لمعلومات التكنولوجيا الحيوية، يقلل الاستهلاك الكافي من الخضر والفاكهه والبقوليات والمأكولات البحرية والحليب من اكتئاب ما بعد الولادة.
أما اختصاصية التغذية دارين فانوس، فتعتبر أن لا علاقة للنظام الغذائي بإخراج الأم من حالة الاكتئاب، وتشير لـ"العربي الجديد"، إلى أنه حتى الآن لم يتم الكشف عن دراسة مؤكدة تشير إلى أن هناك مأكولات معينة تستطيع إخراج المرأة من حالة الاكتئاب.
وبحسب فانوس، فإن الاكتئاب له علاقة بالتغيرات الهرمونية، لذلك تحتاج لفترة زمنية حتى تستعيد التوازن في حياتها. في المقابل، تشير فانوس إلى أن النظام الصحي المتوازن يساعد في تعافي الجسد من الأمراض، ومن المؤكد أن ذلك ينعكس على نفسية الإنسان، لذا لا بد من تناول الأغذية الصحية في كل الأوقات حتى لا يصاب الإنسان بأي أمراض تذكر.
علاج اكتئاب ما بعد الولادة
تختلف سرعة أو بطء التعافي من اكتئاب ما بعد الولادة بحسب نوعية الاكتئاب الذي يصيب الأم، ومدى تقبلها لمشاعرها الجديدة. ويذكر الدكتور أحمد عياش عوامل تساعد على علاج اكتئاب ما بعد الولادة، ومنها:
1- الدعم والمساندة من العائلة والمحيط الاجتماعي: العائلة تلعب دوراً كبيراً في مساندة الأم، إما بالدعم المعنوي والعاطفي والتشجيع، أو بالمساعدة المباشرة في أنجاز مهامها، خاصة في الفترة الأولى من الولادة. كذلك تؤدي مساندة المحيط الاجتماعي للأم إلى تحسين مزاجها، ومرور فترة الاكتئاب بسلام وهدوء. أما في حالة الاكتئاب الحاد، فإن العلاج النفسي، واستخدام بعض الأدوية يساعدان في التخلص من حالة الاكئتاب.
2- الابتعاد عن أي ضغط نفسي وجسدي، من العوامل التي تعتبر تقارير صادرة نشرت في موقع mayoclinic.org أنها تساعد في علاج اكتئاب ما بعد الولادة وإعادة التوازن إلى حياة الأم.
3- أخذ الأم قسطاً كافياً من الراحة يومياً، وعدم إخضاعها لأي ضغط كان أو حدوث مشاكل، بل عل العكس مساعدتها لإنجاز مهامها كأم.
4- الاستعانة بالأهل والأصدقاء، أو حتى طلب مساعدة من ممرضة أو جليسة أطفال، للبقاء مع الطفل لفترات معينة خلال النهار، حتى تتمكن الأم من استعادة عافيتها، وتدريبها على مهامها الجديدة، فالخوف والتوتر من المسببات الرئيسية لزيادة حالات الاكتئاب.
5- الخروج من المنزل في نزهة بسيطة برفقة الزوج أو الأصدقاء يومياً يساعد في تحسين نفسية المرأة، فالتنزه في حديقة قريبة أو المشي لنحو 20 دقيقة قرب المنزل يخرج الطاقة السلبية، ويساعد على التفكير الإيجابي، كما أن التنزه مع الطفل، يساعد أيضاً في تحسين العلاقة بين الأم ومولودها، ويخرجها من حالة الاكتئاب.
6- يبقى دعم الزوج وتفهمه لزوجته من أهم العلاجات التي تساعد الأم للتخلص من شعور الكآبة. فالزوج يستطيع أن يشعرها بثقتها، جمالها، وأنوثتها، وهو ما تحتاجه الأم في هذه الفترة من حياتها.