السوريّون الذين هربوا من الحرب في الوطن اختلفت وجهاتهم. بعضهم استقرّ في دول الجوار، في حين أنّ آخرين قصدوا أوروبا على الرغم من الصعوبات. فرنسا واحدة من تلك الوجهات. ويُسأل عن حال هؤلاء فيها.
مؤخراً عبّر لاجئ سوري في فرنسا عبر صفحته على "فيسبوك" عن فرحته العارمة بحصوله على سكن لائق بعد طول انتظار في باريس. هو يستطيع أن يرتاح أخيراً. وهذا "الإنجاز" الذي يُفترَض أنّه من حقوق الإنسان، يكشف الظروف الصعبة للاجئين في فرنسا.
من حين إلى آخر نقرأ في صحيفة أو موقع إخباري عن نجاحات حققها اللاجئون السوريون في الاندماج في فرنسا، إن من خلال الحصول على دبلوم جامعي أو إنجاز مشروع تجاري أو فتح مطعم، أو غير ذلك. لكنّ هذه النجاحات الفردية لا يمكن أن تطمس حقيقة الظروف القاسية التي ما زال السوريون يعرفونها في فرنسا، حتى وإن كان عدد اللاجئين قليلاً بالمقارنة مع ألمانيا والدول الإسكندنافية.
حياة كلّ واحد من هؤلاء اللاجئين السوريين في فرنسا فردية، وكذلك مساراتهم. وقد حاولت "العربي الجديد" التعرّف على أحوال بعض منهم، فوجدت أنّ بعضاً من الذين التقتهم يفضلون الانتقال إلى ألمانيا أو بلجيكا على سبيل المثال، لأنّ الاندماج هناك أسرع ولأنّ الإجراءات أقلّ تعقيداً، بحسب ما يشيرون. أمّا آخرون، ففضلوا الاستقرار في فرنسا لأنّ ثمّة أهالي أو معارف أو أصدقاء لهم يقيمون في هذا البلد وقد تعوّدوا على عاداته وتقاليده، وهو ما يسهّل على الوافدين الجدد الاندماج والتأقلم سريعاً.
أحمد من حمص، وصل إلى فرنسا في نهاية عام 2015، يقول إنّ "الاندماج أنتَ من يخلقه، وليس الآخرين"، مضيفاً أنّه "عليّ أن أبحث عن الآخرين وأن أحدّثهم عني وألا أختفي بدعوى أنّهم عدائيون أو أن حضوري يزعجهم". وأحمد الذي يعيش في مدينة تولوز، يقصد من حين إلى آخر باريس، رغبة منه في التواصل مع أبناء بلده، ولا يخفي رغبته العميقة في الإقامة في العاصمة. ويشير إلى أنّ "الحظ لم يحالفني لكي أكون من بين هؤلاء الذين نُقِلوا إلى باريس وضواحيها. فقد توجّهت بي الحافلة من مخيّم كاليه (شمال) إلى الريف الفرنسي حيث أقيم اليوم". ولا يخفي أحمد أنّ "الاستقبال هناك كان فاتراً"، من دون أن ينتقد أحداً. ويوضح: "أتفهّم الريبة والقلق اللذين يحسّ بهما فرنسيون كثيرون حيث أقيم، إذ إنّهم بمعظمهم مزارعون لم يسمعوا عن سورية إلا أخيراً من خلال أخبار الحرب والدمار".
جميل كذلك وصل إلى فرنسا في نهاية عام 2015، لكنّه من حلب. يخبر أنّه فعل ذلك "بعدما وجدت نفسي ممزقاً بين خطر الانخراط في الجيش السوري أو الانضمام إلى إحدى المجموعات المسلحة. فقرّرت التوجّه إلى لبنان ومنها على متن طائرة إلى تركيا، ثم في زوارق إلى أوروبا. انتقلت من اليونان إلى مقدونيا ومنها إلى صربيا، ثم اجتزت الحدود الصربية المجرية، وهي أصعب المراحل قبل الوصول إلى النمسا وألمانيا بعدها". أمّا عن السبب الذي جعله يختار فرنسا دون غيرها، فيقول: "بينما كان أصدقاء كثيرون لي، تعرّفت إلى بعضهم في اليونان وتشاركت مع آخرين مخاطر السفر، لا يرددون سوى ألمانيا والمستشارة (أنجيلا) ميركل، كنت أمنّي النفس بقرب الوصول إلى فرنسا. ولا أخفي أنّ بعضاً من أفراد عائلتي يقيمون في فرنسا منذ فترة طويلة، وهم ساعدوني كثيراً، خصوصاً بالأموال الضرورية لعبور الحدود الأوروبية. وقد وعدوني بكلّ الدعم حتى أستقرّ في فرنسا".
في مخيّم غراند سينت للاجئين (فيليب هوغين/ فرانس برس) |
تجدر الإشارة إلى أنّ الجالية السورية في فرنسا لم تكن كبيرة قبل عام 2011، وكانت بمعظمها طلاباً سابقين قرّروا البقاء بعد إنهائهم دراستهم. وهذا ما يفسّر من جهة، العدد القليل للسوريين الراغبين في البقاء في فرنسا. أمّا الذين قرّروا اختيار فرنسا دون سواها، فكانوا يعرفون أنّ ظروف الاستقبال واللجوء فيها صعبة وبطيئة، باعتراف المسؤولين أنفسهم. في السياق، يقول رامي، وهو من هؤلاء اللاجئين، إنّ "الحكومة الفرنسية لم تستقبلنا بأذرع مفتوحة، كأنّها تريد أن تبعث برسالة تحذير إلى السوريين الذين تراودهم آمال بناء حياة جديدة في أوروبا".
إلى هؤلاء الذين يشكون من عدم النجاح، فإنّ سوريين كثيرين نجحوا في التأقلم والاستقرار بفضل جهودهم وإمكاناتهم الخاصة، من دون انتظار مساعدات تتأخّر في الوصول. يقول سمير إنّه "من حسن حظ السوريين، ربّما، أنّ معظم اللاجئين منهم يمتلكون مؤهلات علمية، بالمقارنة مع لاجئين آخرين من أفغانستان وإثيوبيا ودول الساحل. وهو ما يسهّل عليهم الاندماج في المجتمع وسهولة العثور على شغل، وعدم انتظار المساعدات الحكومية أو مساعدات المنظمات الخيرية والإغاثية التي تكون في معظم الأحيان غير كافية".
واللافت حين نتحدث إلى موظفين في منظمات إنسانية تُعنى بشؤون اللاجئين، أنّهم يشيرون إلى أنّ السوريين محظوظون في الواقع بالمقارنة مع المهاجرين الآخرين. وهو ما عبّر عنه أحد موظفي جمعية "إيمايوس" الخيرية، إذ قال إنّ "المأساة السورية حديثة، وقد رأى العالم بأسره عبر مختلف وسائل الإعلام، معاناة هذا الشعب. من هنا، أتى التعاطف الهائل الذي أثّر بالتأكيد على السلطة السياسية التي تبدي تعاطفاً أكبر مع اللاجئين السوريين، والذين يحصل معظمهم على حق اللجوء، بالمقارنة مع جنسيات أخرى".
يمكن القول إنّ فرنسا ما زالت متأخّرة عن دول أوروبية أخرى في قضيّة إسكان المهاجرين واللاجئين، على الرغم من الإعلان عن تأليف لجنة وزارية تُعنى بشؤون اللاجئين، وهي مكلّفة بتنظيم استقرارهم في فرنسا. حتى اليوم، لم يُعيَّن أحد فيها. وفي ما يخصّ التزامات الحكومات السابقة، لا يبدو أنّها تشغل بال أحد.
وهذه الظروف الصعبة في استقبال اللاجئين، جعلت عائلة سورية واحدة تقبل الاستقرار في راموفيل سانت - آن، بالقرب من تولوز، فيما رفضت عائلات أخرى هذا الاقتراح. وتؤكد الأرقام هذا، إذ تشير إلى أنّ المهاجرين المتدفقين على أوروبا في عام 2015 بمعظمهم، وهم كانوا في حدود المليون شخص، قد فضّلوا ألمانيا والسويد. ومن بين هؤلاء 315 ألف سوري لم يأتِ منهم حينها إلى فرنسا سوى خمسة آلاف طلب للجوء.
صحيح أنّ الرقم تضاعف مرّتَين في العام التالي (2016) إلا أنّه يظلّ ضئيلاً بالمقارنة مع ألمانيا. وهو ما يجعل رئيس جمعية "فرنسا أرض اللجوء"، بيار هنري، يعترف بأنّ "فرنسا اتخذت منذ بداية الأزمة السورية موقفاً متحفّظاً خجولاً وبارداً. فلم نؤدّ واجبنا الإنساني".
وفي دراسة أعدّتها "المفوضية السامية لشؤون اللاجئين" شملت ألفاً و245 سورياً، بين شهر إبريل/ نيسان 2015 وسبتمبر/ أيلول من العام نفسه، لم يختر سوى 0.4 في المائة منهم الاستقرار في فرنسا. وقد عبّر 80 في المائة منهم عن الأمل في العثور على فرصة عمل في ألمانيا.
في مخيّم كاليه للاجئين (أولي سكارف/ Getty) |
وظروف الاستقبال الصعبة في فرنسا دفعت إحدى الصحافيات الألمانيات، فيرينا فون ديرشو، إلى القول إنّ بلادها استقبلت في عام 2015 مليون مهاجر، ولم يُشاهَد أيّ منهم تحت خيمة أو في الوحل أو من دون متابعة طبية ومن دون ماء للشرب، مثلما الحال في مخيّم كاليه ومخيّم غراند - سينت. أضافت أنّها حين ذهبت حافلات فرنسية تابعة لـ"المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين وعديمي الجنسية" إلى كولونيا لإحضار ألفَي مهاجر، لم يستقلّها إلا 800 شخص.
إلى ذلك، كشفت تحقيقات تناولت ظاهرة اللجوء السورية أنّ 81 في المائة من اللاجئين هم من الرجال، و69 في المائة من الشباب (تراوح أعمارهم بين 18 عاماً و35)، فيما يحمل 86 في المائة منهم شهادة بكالوريا أو شهادة جامعية.
يُذكر أنّ رئيسة حزب "الجبهة الوطنية" اليميني، مارين لوبان، قد سخرت من العدد الضئيل للنساء بين المهاجرين السوريين. لكنّ التقرير خلُص إلى أنّ الشاب يغامر في البداية لوحده، بسبب ظروف الحرب وصعوبة تنقل عائلات كبيرة، ثم يبحث عن فرصة عمل في بلد الاستقبال ويحرص على توفير ظروف التحاق عائلته به، إمّا بطريقة قانونية إذا توفّرت الشروط أي موافقة مؤسسات الاستقبال، وإمّا بطريقة غير قانونية في نهاية المطاف. وقد عبّر 58 في المائة من اللاجئين السوريين عن نيّتهم إحضار عائلاتهم. وهذا يعني كذلك أنّ اللاجئين السوريين بمعظمهم لا يريدون العودة إلى بلادهم، وأنّ كثيرين منهم يرون أنّ الحرب لن تتوقف قريباً وهم يريدون أن يقلبوا الصفحة ويبنوا حياة جديدة في بلد الاستقبال.
في سياق متصل، تقدّم السلطات الفرنسية مساعدة شهرية قدرها 718 يورو لكلّ عائلة تتألف من ستة أفراد. وبمجرّد أن يحصل الشخص على اللجوء، يبدأ بتلقّي 11.45 يورو يومياً (343 يورو شهرياً)، إذا لم يكن يقيم في مركز استقبال، أو 91 يورو شهرياً إذا كان يقيم في مركز استقبال لطالبي اللجوء. وهي ليست مبالغ كبيرة، إلا أنّه يستطيع أن يلجأ إلى منظمات وجمعيات إنسانية وكنائس للحصول على المساعدات. كذلك فإنّ الحكومة من خلال مصالحها المختلفة، توفّر الطبابة والضمان الاجتماعي بالإضافة إلى تعليم الأطفال. وثمّة جمعيات خيرية وإغاثية فرنسية كثيرة توفّر دعماً للاجئين السوريين، مثل المواد الغذائية أو الملابس، لكنّ العائلات تحتاج في كثير من الأحيان إلى السيولة.