"وقائع قتل متعمّد".. بعض فصول مأساة مركب طرطوس كما يرويها ناجٍ لـ"العربي الجديد"
لا تزال روايات الناجين من "قارب الموت" الذي انطلق من لبنان الأربعاء الماضي وغرق قبالة ساحل طرطوس السوري، تثير الرعب في النفوس جرّاء حجم المأساة التي تعرضوا لها.
جهاد البشلاوي، أحد الناجين، من قارب الموت، يقول: "أبلغ من العمر 31 عاماً، وأنا لاجئ فلسطيني في لبنان، خريج محاسبة من معهد فني، أعمل شيف مطبخ، وعائد من الموت بمعجزة من ربي".
دموعه تسبقه عند الحديث عن الساعات الأخيرة وما تلاها من رحلة الموت والحياة، كما يصفها. كل انفعالاته تشير إلى أن خطباً جللاً حدث، منذ اللحظة الأولى التي ذهب فيها من بيروت إلى طرابلس (شمالي لبنان)، عند الساعة 8 مساء الثلاثاء، بعد تلقيه اتصالاً من المهرب يقول: "الليلة الرحلة".
يروي البشلاوي، بداية رحلة الموت لـ"العربي الجديد"، قائلاً: "أخذوني من طرابلس بسيارة كان فيها 5 أشخاص إلى مزرعة، حيث صُدمت من العدد، كان داخلها حوالي 200 شخص، ثم صعد عدد منا إلى شاحنة توجهت إلى مرفأ طرابلس، وعند الساعة 3 ونصف ليلاً نقلونا على مجموعات عبر قوارب إبحار تقليدية خشبية، كانت 5 قوارب كل واحد عليه تقريباً بين 20 إلى 25 شخصاً، إلى المركب الذي كان في عرض البحر".
فات الأوان.. ذاهبون إلى الموت
يقول جهاد: "عندما رأيت المركب والأعداد التي صعدت عليه، أحسست أنني ذاهب للموت، وأنني وقعت ضحية عملية نصب واتجار، إذ قيل لي إن المركب كبير وأعداد قليلة ستكون عليه"، لافتاً إلى أنه دفع 7 آلاف دولار لقاء رحلة "قارب الأحلام".
يضيف: "عندما وضعت قدمي على القارب، أدركت أن الأوان قد فات للرجوع". ويستدرك: "جميع من على القارب كان لديهم إحساس بأن الموت قادم، لا سيما أن القبطان أسامة نافذ رفض الصعود بعد أن شاهد الحمولة، وعلمت أنه هُدّد بالقتل كي يكمل الرحلة، ولكن لم أقم بأي ردة فعل... لا أعلم ما حل بي، أهو العقل حين يُغيب، أم اليأس؟".
يجيب جهاد نفسه: "نعم، إنه اليأس. الجميع كان يائساً، ويكذبون على أنفسهم ويقولون إن الأمور ستكون بخير. كأنهم استسلموا".
"البحر قال كلمته ضدّنا"
ويكمل: "كثيرة هي المؤشرات والمعطيات التي تضافرت لتقول لنا إننا ذاهبون إلى الموت". ويتابع: "مضى المركب وعلى متنه حوالي 160 شخصاً تكدسوا فوق بعضهم البعض، وهو لا يكاد يتسع لأكثر من 50 شخصاً".
يقول: "دقائق وتوقف محرك القارب عن العمل، لكن القبطان أعاد تشغيله. أكثر من 50 مرة.. وبعد مضي 3 ساعات توقف نهائياً".
ويتابع: "حينها اتصل القبطان بأبو عليّ (السمسار)، وأخبره بأن القارب انتهى أجله وأننا بحاجة إلى قارب آخر. وأخذنا نصرخ بأننا نريد العودة. لا نريد مالاً. نريد الحياة فقط. ولكن انتهى بنا الحال أمام عدو جديد. لا أحد أقوى من البحر، والبحر قال كلمته ضدنا".
ويقول: "بدأ الموج يعلو والقارب يهتز شمالاً ويميناً، أمواج عالية لم تخفِ استغاثة الأطفال. جميعنا عانقنا بعضنا، كان بقربي شاب اسمه أحمد، قال لي لا أريد أن أموت أنا لا أعرف السباحة، لا تتركني".
وبدموعه يكمل: "لكني تركته، هي لحظات يتوقف فيها التفكير، وقبل أن ينقلب القارب رميت بنفسي في البحر بعد أن أبعدت أحمد عني".
الجثث تطفو فوق الماء
لا يستطيع جهاد أن يخفي شعوره بالذنب تجاه أحمد الذي تركه لمصيره، قائلاً: "نعم تركت أحمد، ولكنني كنت أريد الخلاص، خاصة أن المركب عندما ينقلب سيبتلع من حوله، سبحت بعيداً عنه، وما هي إلا دقائق حتى طفت قرابة 60 جثة لنساء وأطفال".
"الجثة الأولى التي ارتطمت بي كانت لطفل حديث الولادة، كان أشبه بقنينة ماء صغيرة تطفو بهدوء على الماء". ويتابع جهاد حديثه، بنظرات تائهة: "البحر لم يكن رحيماً أبداً، كالسماسرة الذين قامروا بحياة 160 شخصاً بينهم 30 طفلاً.. ما هي إلا دقائق حتى اختفى الناس، اختفت الجثث، لم أشاهد أحداً من الضحايا، باستثناء 30 شخصاً كانوا يحاولون قلب القارب مرة أخرى لكي يتمسكوا به. بسرعة انضممت لهم، وصرت أصرخ على شباب مخيمي، مخيم شاتيلاً، كانوا 3 ما زالوا أحياء، (رواد ونور وأحمد الحج)، وقلت تمسكوا بخشبة القارب".
يتحدث: "غاب العقل تماماً لا مكان للمنطق أبداً، حل الليل، والبرد لا يرحم، أخذ الناجون يموتون واحداً تلو الآخر، كان بجانبي الشهيد نور، كنا نتدفأ ببعضنا، وكنت لحسن حظي أرتدي كنزة شتوية".
ويضيف: "حل الصباح ونحن نموت تباعاً، كان بقربي رجل مع طفلين، أخذت منه الطفلين، كي أريحه، ولكن بعد ساعات، فارقا الحياة. لا أعلم كم واحد مات بين يدي. إذ بعدهما مات نور، الذي غفا على صدري، مستسلماً لقدره، رغم أنني بقيت أحدثه عن أننا سننجو ونعود إلى حياة أفضل".
يردف قائلاً: "أصيب بعض الشباب بالهذيان، وهذا كان بالنسبة إلينا نحن الباقين مؤشراً على قرب أجلهم، بعضهم طلب ماء، وآخر تحدث عن حلم يراه بالذهاب للجامع من أجل الصلاة، وآخر كان يريد سيارة أجرة في عرض البحر".
حل الليل مجدداً "ولا مركب ظهر ولا طائرة ولا شيء، لم يكن في عقلي إلا أبي، سلمت أمري إلى ربي وتركت المركب، وعمت على الماء، ثوان وشاهدت والدي في عزائي، شاهدته يقع مرات ومرات، وصوت تلاوة آيات القرآن في أذني. صحوت وقررت أنني لن أتسبب بقتل والدي وسأكمل".
ويتابع: "كنت أحمل حقيبة صغيرة، علّقتها في رقبتي، كان بداخلها 1000 دولار وعقد من الذهب، ولكني تخليت عنها، إن كنت ذاهباً للقاء ربي فلن يسألني عن المال، حساباته تختلف عنا نحن البشر".
"رهنت أمي ذهبها واستدنا لكي أموت. ما حدث مجزرة لا يتحملها عقل".
ويكمل بمرارة: "كان بجانبي شاب اسمه أيمن قباني، قلت له دعنا نجرب أن نسبح إلى اليابسة، مر وقت طويل، لا أريد أن أموت دون محاولة، رد وقال لست سباحاً ماهراً، قلت دعها تكون المحاولة الأخيرة، سبحنا 10 ساعات، وقبل 300 متر تعبت، أعطيته سترتي وقلت أكمل برعاية الله".
يضيف جهاد: "كان الشاطئ أمامي، ولكن جسدي لم يكن قادراً على الحركة، حتى نظري خانني، أرهقت حتى النفس الأخير، وسلمت أمري إلى ربي مرة أخرى، ولكن ماذا أفعل، عدت ورأيت والدي، كان هو من أنقذني. أكملت ووصلت إلى الشاطئ ولوحت بيدي وغبت عن الوعي".
استيقظت وأنا في المستشفى، جاءت طبيبة قالت لي: "الحمد لله على السلامة، لقد نجوت".
وينهار باكياً وهو يقول: "نجوت من الموت، ولكن جحيم ما حدث، سيلاحقني ما حييت"..