استمع إلى الملخص
- تروي وفاء أسعد أبو سمعان قصتها الشخصية، حيث كانت حاملًا ومريضة سرطان، فقدت زوجها وأقاربها في القصف، وتعرضت لإصابات خطيرة، لكنها نجت ووضعت مولودها بعد معاناة.
- بعد نقلها إلى مصر، وضعت وفاء مولودها "رأفت" في مستشفى العريش، لتظل رمزًا للصمود والقوة رغم فقدانها لأحبائها وتدمير حياتها.
هَذِه شهادَاتٌ لِناجِين وناجياتٍ من الحرْب فِي قِطَاع غَزَّة اِلتقيْتُهم فِي البرْزخ. حِكايَاتٌ مَسمُولةٌ بِالْأشْواك تُحَاوِل التَّحْديق فِي الفاجعة، سِلْسلةُ قِصص توْثيقيَّةٍ تَبحَث فِي ثِيمة النُّقْصان. هُنَا بشر فَقدُوا كُلّ شَيْء: عائلاتهم، بُيوتهم، أطْرافهم، أحْشاءهم، قطعًا مِن اللَّحْم اِعْتادتْ أن تَكسُو عِظامَهم، حَوَاسّ زوَّدتْهم بِهَا البيولوجْيَا لِالْتقاط معْلوماتٍ عن العالم الخارجيِّ، وَرقَة تِينٍ توارِي سَوأَة خَطِيئَة لَم يقْترفوهَا، وَلغَة مُتماسكة لَم يُصبْهَا مَا أَصَاب أصْحابهَا مِن تشظٍ وَشَتاتٍ واسْتحالةٍ إِلى أَشلَاء مُتناثرة.
قِصص النُّقْصان هَذِه؛ نُقْصان الأجْساد مِن أعْضائهَا، الخريطة مِن تضاريسهَا، التُّرْبة مِن بقْلهَا وقثَّائهَا وزيْتونهَا، البحْر مِن أسْماكه، القصائد مِن وزْنهَا وقافيتهَا، المنْظومة التَّعْليميَّة مِن أساتذتهَا وتلامذتهَا، المشافي مِن حَبَّة دَوَاء، قِصص تُحَاوِل الاكْتمال عَبْر روِي النُّقْصان، صَوْت الضحِية - التِي لَم تَعُد تَملِك غَيْر ذاكرتهَا فِعْلاً لِلْمقاومة - لِجَعل اللغَة البشريَّة الحسِّيَّة قَادِرة على تَجسِيد الألم أو النَّظر إِلَيه، إِنَّها مُحَاولَة لِرؤْية الإبادة مِن وُجهَة نظرٍ خَاصَّةٍ بِلحْظةٍ مُعَينَةٍ تَبحَث فِيمَا حدث لِفلسْطينيِّي غَزَّة بَعْد السَّابع مِن أُكتُوبَر.
هذهِ الشهادات التي تكتُبُها الروائيّةُ سمر يزبك وينشرُها "العربي الجديد" على حلقاتٍ ستصدُرُ لاحِقاً في كتابٍ يحمِلُ اسمَ "ذاكرة النّقصان".
أنا وفاء أسعد أبو سمعان، أعيشُ في مشروعِ بيتِ لاهيا، عمري ثمانيةٌ وعشرون عامًا. كنتُ حاملًا في الشهر الثامن عندما بدأت الحرب، أعيشُ مع زوجي وابنتيَّ مريم وشهد. في يوم السابع من أكتوبر، كنّا في البيت، أخذتُ أُجهِّزُ نفسي وبناتي للمدرسة. طلبتُ من زوجي أن يأخذَ شهدَ معه وهو ذاهبٌ إلى العمل. ولكن عندما سمعنا الصواريخَ والصراخ، أدركتُ أن الحربَ قد بدأت. زوجي قال إنّها مجردُ مناوراتٍ، لكنّي كنتُ متأكدةً أنّها ستكون حربًا، لقد عِشنا الحروبَ من قبل ولذلك اعتقدتُ أنّها ستمرُّ مثلَ باقي الحروب. أراد زوجي الخروج، لكنني منعتُه وأقفلتُ الباب وقلتُ له إنّه لن يذهب. بقينا في المنزل، شعرت بخوفٍ هائلٍ. الصراخُ وأصواتُ الصواريخِ مرعبةٌ، من الواضحِ أنّها ليست مناورات. بعد عدةِ ساعاتٍ، بدأ القصفُ الإسرائيلي بشكلٍ جنوني، أحزمةٌ ناريةٌ متتاليةٌ تنهمرُ من السماء دون توقفٍ. كنتُ في شهري الثامنِ من الحمل ونعيشُ في الطابقِ الأخير، وظهرت عليّ بوادرُ ولادةٍ مبكرة. قال لي الطبيبُ إنّه يجبُ ألا أتحركَ لأنني قد أفقدُ الجنين. زوجي خافَ وطلب مني أن أذهبَ إلى بيتِ أهلي في جباليا، لأن الوضعَ أصبحَ خطيرًا هنا. ذهبتُ وبقيتُ عشرةَ أيام، لكنّ القصفَ هناك كان كثيفًا جدًا، لقد دمَّروا مربعاتٍ كاملةً من المنازل. أنا حاملٌ ومريضةُ سرطان، رؤيةُ الجثثِ المقطعةِ زادت من خوفي وإرهاقي. من شدةِ القصفِ سقطَ زجاجُ المنزلِ والردمُ علينا. بيتُ أهلي كان مليئًا بالنازحين، لذلك قرّرَ زوجي أن نعودَ إلى بيتنا فالقصف في كلِّ مكانٍ، ولا يوجدُ حيٌّ أكثر أمانًا من غيره. فقدتُ اثنين من أخوالي خلالَ القصف، سامي وهاني حرب. أنظرُ دائماً إلى ابنتيَّ مريمَ (ثماني سنوات) وشهد (خمس سنوات) وأشعرُ بالحزن الخانقِ وبالخوفِ الشديد، بدأت معدتي تؤلمني من القلق.
توقفتُ عن النوم في شقتِنا في الطابق الأخير عندما عدت من بيتِ أهلي، وأصبحتُ أنامُ مع بناتي في بيتِ حماي مع عمتي وأخوات زوجي في الطابقِ الأرضي. في الواقع، لم أكن أستطيعُ النومَ قلقًا على زوجي الذي كان ينامُ وحده في شقتنا. وضعي الصحي صار صعبًا، فقد توقفتُ عن تلقي علاجِ السرطان، حين توقفتِ الأدويةُ عن الوصول لغزةَ بسببِ الحرب. لم يكن يهمني ذلك، كلّ تفكيري كان منصبًّا فقط على الحفاظ على حياةِ زوجي وبناتي وعلى جنيني. حماي كان طبيبًا في مستشفى كمال عدوان، وكان يأتيني أحيانًا ببعض الأدوية، لكنّها لم تكنْ كافيةً دائمًا. اعتدْنا على تجهيزِ حقيبةٍ دائمةٍ تحتوي على أوراقِنا الرسميّةِ وأدويتي، نحن في غزةَ نعيشُ على أهبةِ الاستعدادِ لأيِّ حرب. ما أزالُ في حالةِ حدادٍ على أخوالي، أنا متعلقةٌ بهما جدًا. ومن شدةِ الحزن، فقدتُ القدرةَ على الحركة، وبدأت أشعرُ بألمٍ في بطني، أبكي بلا توقف. هل تعرفين! أنا عانيتُ كثيرًا قبلَ الحرب، عندما أصبتُ بالسرطان. قال لي الأطباءُ إنني لن أستطيعَ الإنجابَ مرةً أخرى، ورغم أن لديَّ ابنتين، فكرتُ في زوجي وبناتي، وقلتُ له أن يتزوجَ. لكنّ زوجي رفضَ، وقال لي إنّ البناتَ مثلُ الصبيان بالنسبة له، وأنّه ليس مهمًا أن أنجبَ صبيًّا، مُؤكِدًا "ما في أحلى من البنات!". كنتُ أشعرُ بنقصٍ لأنني لم أنجبْ صبيًّا، تألمتُ كثيرًا، لكن حدثت معجزةٌ، وحملتُ أثناء مرضي. أصبحتُ خائفةً من فقدانِ جنيني، لدي يقينٌ أنّه صبيّ. في الليالي، كنتُ أدعو الله أن يحفظَه، حتّى لو كانت ولادُته ستجعل حياتي في خطرٍ. أُريدُ إسعاد زوجي، هو ليس مجردَ زوجٍ، كان صديقًا وحبيبًا وأخًا. اسمه سعيد رأفت أبو فول، يعملُ في البلاط. فرح كثيراً عندما علمَ بحملي، لا أنسى وجهه المضيء! العائلةُ كلها لم تصدقِ الخبر، لكنّه كان حقيقيًا، كنتُ فقط أريدهُ أن يرى ابنَه. لقد جهّز له كلَّ شيء، اشترى كلّ ما يحتاجُه طفلُنا المنتظر.
في ذلك اليوم -التاسع عشر من أكتوبر- شعرتُ بالرغبةِ بالبقاء مع زوجي وبناتي كعائلةٍ تحت سقفٍ واحدٍ، شعرتُ بالضيقِ لأنّنا نتركُه وحده، فصعدتُ من بيتِ عمي في الطابقِ الأرضي إلى بيتِنا، فرشتُ لبناتِيَ على الأرض بجانبِ أبيهنَّ في الصالون، بعيداً عن النوافذ. كنتُ قد جهَّزتُ البيتَ ودهنتُ الجدران وأعددتُه لاستقبالِ الطفل. للحظةٍ، شعرتُ بالسعادةِ وأنا بجانبِ زوجي وبناتي في بيتي النظيف. جلسنا نتابع الأخبار ونرصد مناطق القصف. طلبَ مني زوجي أن أنام، ولكن كيفَ ننامُ والقصف مستمر؟ قالَ لي حينها فجأةً: "تشهّدي ونامي، أشعرُ أنني سأستشهدُ اليوم، إن حصل ذلك، أعرفُ أني سأتركُ امرأةً قويةً تعتني بأولادي". عندما قالَ ذلك، بكيتُ. لم تمرّ نصف ساعة حتّى سقط الصاروخ الأول علينا، لكنّه لم ينفجر. قفزنا من أماكننا، رميتُ نفسي فوقَ ابنتيّ لحمايتهما. كانت لحظةً مرعبة. نهض زوجي من الفراش يريد أن يحضننا عندما سقطَ الصاروخُ الثاني وانفجر، انهارَ البيتُ بأكمله فوقَنا. كنتُ واعيةً ورأيتُ كل شيء. طرْنا في الهواء، وكل واحدٍ منا وقعَ في مكانٍ مختلف. كنتُ أسمعُ ابنتيّ تصرخان، وأنا أصرخ: "يا ناس... الحقوني!" سمعتُ صوتَ زوجي يتشهد، وكانت ابنتاي تبكيان. رأيتُ نفسي أُجاهدُ لرفعِ الأحجارِ الثقيلةِ والصخورِ التي وقعت على ابنتي، من أين جاءتني تلكَ القوة! البنتان تصرخان: "يا ماما!" وأنا أرفعُ الأحجارَ وفجأةً تهيَّأ لي أنني أشعرُ بسائلٍ حار، وأسمعُ صوتَ مولودٍ يصرخ. ظننتُ أنني أفقدُ جنيني، وقلتُ في نفسي هل مات؟ ذهب! لقد شعرتُ حقاً بألمِ الولادة وأحسستُ بسخونةِ سائل "طقّ الراس". لكن كلَّ تفكيري في ذلك الوقت كان في إنقاذِ ابنتي. بدأتُ أنبشُ الردمَ بأصابعي لأصلَ إليهما. سمعتُ أصواتَ الناسِ من حولي، وصرختُ: "أنا عايشة! الحقوا بناتي!" لكن صراخَ ابنتيّ بدأ يخفُّ، وعرفتُ أنّهم أنقذوهما من خلالِ أصواتِ الناسِ من حولي. سمعتهم يقولون: "وفاء وزوجها استشهدا!" فصرختُ من تحت الأنقاض: "زوجي عايش! اسعفوه... اسعفوه!" وسمعتُ صوته يقول: "لا إله إلا الله..." سمعتهم يقولون: "هاتوا الشيّالة"، وفجأةً صرختُ: "انتبهوا، رجلي مبتورة!" لقد رأيتُها كيف وقعت السقف عليها، لم أشعرْ بألمٍ حينها، رأيت جلداً رقيقاً فقط يفصلُ رجلي عن باقي جسدي. طلبتُ منهم أن يحملوني بهدوء، كلّ تفكيري كان منصباً على جنيني الذي كنتُ أظنُّ أنني فقدتُه. لاحقاً، أدركتُ أنَّ صوتَ البكاءِ الذي سمعتُه والماءَ الحارَّ المتدفّقَ كانا مجردَ هلوسات. لم أفقدهُ كما ظننْتُ، لكنّي لحظتها كنتُ واثقةً أنني سمعتُ صوتَ جنيني! في سيارة الإسعاف بدأتُ أشعرُ بأنني أتهاوى وأغيبُ عن الوعي. أحاولُ لمسَ رجليَ المبتورة، والمسعفُ يصرخ: "يا أختي، ما تناميش!" وعندما تحركتْ سيارةُ الإسعاف، أخذت ثانية أفكرُ أنّني تركتُ جنيني هناك، تحت الأنقاض. ثمّ غبتُ عن الوعي تماماً، ولم أعدْ أتذكرُ متى تحديداً حصل ذلك، ولكنني كنتُ متأكدةً حينها أنّني فقدتُ طفلي. أخذتُ أفكر: أين ذهبَ حبلُ السّرة، وفكرت بأشياء غريبةٍ أخرى. كنت أعرف أنني سأموت، لكن يجب عليّ الحفاظ على حياتي حتى أضع جنيني قبل ذلك.
استيقظتُ بعد خمسةَ عشرَ يومًا في المستشفى الإندونيسي على صوتِ عمّي، ولم أكن قادرةً على الرؤية. أعمامي كانوا يبكونَ حولي، يُقبِّلون رجلي ويقولون: "يا ريت نحنا ولا أنتِ!" كنتُ أسمع أصواتًا ثم أُغيبُ عن الوعي مجدّدًا. لم أعرفْ نفسي للوهلةِ الأولى وسألتُ من حولي: "أنا مين؟". فترة الغيبوبة المطلقة استمرت خمسةَ عشرَ يومًا. عمّي سعيد أبو سمعان، الذي كان يعملُ في مستشفى الشفاء، كان يزورني باستمرار. أخبرني أنّ جنيني حيٌّ، وصوّر لي المولود. أُصبتُ بصدمةٍ، فقد كنتُ متأكدةً أنني تركته تحت الأنقاض! لم أستطع فَهمَ الواقعِ من الخيال. أوهامي كانت تبدو لي أكثرَ واقعيةً من الحقيقة. وكنتُ أتخيّل عمي يقول لي: "سأنقذُ طفلكِ!" ثم أُغيب عن الوعي مرةً أخرى. بعد أن صحوتُ من الغيبوبة، نقلوني إلى الطابقِ الأعلى حيث كانت ابنتاي. رأيتهما لأوّل مرةٍ بعد الحادث. كنتُ أنا في سرير، ومريم في سريرٍ آخر، وشهد في سريرٍ ثالث. رأيتُ ابنتيّ وارتحتُ قليلاً، رغمَ إصابتهما. مريم كانت مُصابةً بحروقٍ وشظايا، وفقدتْ إصبعًا من يدها، كما تعرّضتْ لجروحٍ عميقة وكسرٍ في الحوض. شهد كانت أسنانُها مكسورة، وتعاني من إصابةٍ في العين، كُسرت رجلُها، ولديها جرحٌ كبيرٌ من شظيةٍ ممتدّةٍ على طولِ ظهرِها من الرقبة حتى أسفل العمود الفقري. جاؤوا وأخبروني أنّ زوجي استُشهِد. كنتُ داخليًّا أعرف ذلك، لكنّي لم أتفوَّه بحرف. قلتُ لهم فقط: "سمعتُه بيتشهّد حتّى آخر نفس". نعم، تذكّرتُ صوت زوجي وهو يتشهّد ونحنُ تحتَ الأنقاض.
بقيتُ في المستشفى الإندونيسي خمسةً وأربعينَ يومًا. رأيتُ كلَّ شيء. أُجريتْ لي عملياتٌ دونَ بنج، ولأنني كنتُ حاملًا لم يكن مسموحًا أن أتناولَ أدويةً بكثرة، دواءُ السرطان لم يكن متوفرًا. كان الأطباءُ يتوقعون أنني سأموت، وأنا حقاً صدّقتُ ذلك. كنتُ أفكّر في كيفية الحفاظ على حياتي فقط حتى أتمكن من إنجاب طفلي قبل أن أموت. الموت كان حتميًّا في ذهني وفي ذهنِ من حولي. بُترتْ يدي ورجلي، والرِّجل الثانية تضرّرت بشكلٍ كبير، الشظايا والحروق تغطي جسدي. شهدتُ كلَّ شيء؛ الحصار، المجازر، كلَّ ما لا يمكن وصفه. كنتُ أعلم أنهم قصفوا حيَّ أهلي، وسمعتُ الأحاديثَ عن الدمار، بينما كانت حالةُ ابنتي مريم تزدادُ سوءًا. لا أجدُ الكلمات التي تصفُ ما يحدث. القصفُ مستمرًّا فوق المشفى، وأنا في الطابق الثاني بقسم الجراحة. الشظايا والزجاجُ تتناثرُ علينا، والأحجارُ تتساقط، ولا أذكر أنني نمتُ، فقط أذكر الجوعَ والعطش. في كلِّ لحظةٍ كنتُ مقتنعة أنّ نهايتي قريبة، القصف لا يتوقّف. لم أتمكن حتّى من وضع يدي على بطني لأشعرَ بحركةِ جنيني. حولنا طاقمٌ طبيٌّ فقط، مرضى، نازحون، ومرافقون فقط. كلُّ ما كان يُقال عن وجودِ مقاومةٍ أو حماس هناك كان كذبًا! الشظايا كانت تتناثر في كلِّ مكان. رأيتُ الأطفالَ ممزَّقين على الأرض بعيني، رغم أنّني لم أكن قادرةً على الحركة. أطرافُ عيني كانت تلتقطُ المشاهد، رأيتُ كلَّ الجثث. أهلي كانوا يقطّرون لي المحاليل في فمي بنقاطٍ قليلة لأبقى على قيدِ الحياة. جاء أخي ذات يوم ليقول لي إنهم سيأخذونني معهم، لقد نجوا بأعجوبةٍ بعد قصفِ بيتنا. لم أعارضْ، وقلتُ له: "افعلوا ما ترونه مناسبًا". وضعني على الكرسي المتحرك وهو يبكي، وأنا أنظرُ إليه بخوف. نقلوني إلى بيت سِيدي تحتَ القصف، ومع أنّني نجوتُ إلّا أنّ وجهي ما زال يحمل آثار الحروق. عيني كانت مغلقةً، والآن فتحت قليلاً. ربما كانت نعمةً من الله أنّني لم أرَ كل شيءٍ بوضوح، الجثثُ والأشلاءُ كانت في الطريقِ تحيطُ بنا من كلّ اتجاه.
خفْت أن يطلقوا عليّ النار في بطني
وصَلْنا إلى بيتِ جدي تحتَ قَصْفٍ عَنيفٍ. رأيتُ بأمِّ عَيْني كيفَ كانوا يقصِفون الجُثَثَ في الشوارع. عندما وصلنا، وضعوني على السريرِ، ومع استمرار القَصْفِ، كانت الشَظَايَا والزُجَاجُ تتساقَطُ علينا، لكننا نَجَوْنا بطريقةٍ لا تُصَدَّق. أختي الممرضةُ وعَمِّي الطَبيبُ اعتَنَوْا بي، رغم كلِّ ما كان يحدثُ حولَنا. لكن مع تَزَايُد القصفِ، كان عليهم المغادرةُ. طلبتُ منهم أن يتركوني خَلْفَهم ويُنْقِذُوا أنفُسَهم ويأخذوا معهم ابنَتيّ. كان من الصعبِ نَقْلِي، فقلتُ لهم: "هذا قَدَري، اتركوني واهربوا". لكنهم رَفَضُوا، وأصرُّوا على البقاءِ معي، قائلين: "سنبقى معكِ، نَمُوتُ أو نَحْيَا معاً". توسلتُ إليهم أن يتركوني للموتِ، كنت قد وصلتُ لمرحلة الرضا بالموت، لكنّهم رَفَضُوا وأخبروني أنّ هناك طريقاً آمناً سنخرج منه جميعاً. في النهاية، وافقتُ على الرحيلِ مُرْغَمَةً، وأخذوني معهم إلى الجنوب. ذلك اليوم كان الأقسى في حياتي. الطريقُ الذي قالوا إنّه آمِنٌ كان مَلِيئاً بالقتلِ والدَّمَارِ. رأيتُ الجنودَ الإسرائيليين يقصفون الجُثَثَ، والكلابَ تأكل بقايا الأجساد. كان ذلك يومَ الواحدِ والعشرين من نوفمبر، وبقينا من السابعةِ صباحاً حتى الرابعةِ مساءً على الحاجز. المشهدُ كان مُرْعِباً: جثثٌ على جانبي الطريق، القِطَطُ والكلابُ تسير بفمها المُلطخِ بدماءِ البشر، بَشَرٌ مُمزقو الأجسادِ وأغراضهم متناثرةٌ حولَهم. كان اليومُ مُمطراً، ومع ذلك، لم يتوقف القَصْفُ. أخي كان يَجُرُّني على الكُرْسِيِّ المُتَحَرِّكِ وسطَ جموعٍ كبيرةٍ من الناسِ الهاربةِ، مثل يوم الحَشْرِ. كلّما تحركنا، كنت أصرخ من الألمِ، وأتمنى أن تسقطَ قَذِيفَةٌ عليَّ لتنهي مُعَاناتي. كلّ اهتزازةٍ في الطريقِ كانت تزيد من آلامي الرهيبة. الجنودُ الإسرائيليون كانوا يأخذون الشباب عند الحاجزِ ويقتلونهم مباشرةً أمامنا. رأيتهم يَقتلون الشبابَ بدمٍ باردٍ. أخي قال فجأةً: "إذا أخذوني أو قتلوني، ابنُ عمنا سيجرّ كرسيكِ، اصبري". كنت أبكي وأقرأ القرآن، وأثناءَ التفتيشِ، طلبوا منا رفع أيدينا. رأيتُ أيديَ مَقْطُوعَةً، ومرضى مُبْتُورِين، وخشيتُ أنهم قد يأخذونني أيضاً. لكنني واصلتُ قراءة القرآنِ بصوتٍ مَسْمُوعٍ.
أمرنا الجنودُ الإسرائيليون أن نجلسَ على الأرضِ خافضي الرؤوس، أنا مقطعةُ الأطرافِ ولا أستطيع الحركة. كانوا يصرخُون بالجميع ليخفضوا رؤوسَهم وأخفضتُ رأسي إلى الأمامِ، حتى التصقَ ببَطْنِي، لم أستطع إنزاله أكثر. الناسُ من حولي كانوا مُمرغين بالوحلِ والطينِ، كنّا جميعًا مهانين، وهم يصرخُون علينا قائلين: "أنتم يا أهلَ غزة، يا كلاب! نزلوا رؤوسكم يا حيوانات! أنتم كلكم تستحقون الموت! نَزِّلِي راسَكِ يا إرهابية!"، ولم نكن سوى أطفالٍ ونساءٍ وحوامل وشيوخٍ. بقينا على هذه الحال ثلاث ساعات، وهم يصرخُون: "ديروا يسار، ديروا يمين". كنّا نمشي قليلاً ثم يُغلقون الطريق، وإذا سقط منك شيء، يمنعونك من الالتفات إليه، وإن فعلت يطلقون النارَ عليك. كانوا يطلقون النارَ عشوائيًّا. خفت أن يَقتلوني في بَطْنِي، فقد أطلقوا النارَ في الساعة العاشرة من نفس اليومِ على امرأةٍ حامل. شعرت بالخوفِ وبدأت أخفي بطني واضعةً كيساً أمامه لأغطي حَمْلِي، وكان الجميع يطلبون مني أن أخْبئَ حَملي. كنت قد رأيتُ قبلاً امرأةً حاملاً أطلقوا النارَ عليها في بطنها في مشفى العودة. أطلق الجنودُ النارَ نحو ابنِ عمي حين وضعَ أغراضَه على الأرض محاولاً مساعدةَ أخي، كان أخي يَصرخُ به أن يبقى في مكانه. الإسرائيليون أطلقوا النارَ بينَ رجليهِ وهم يصرخُون: "امشِ، وإلا سأطلق النارَ عليك!" تجمّدَ ابنُ عمي في مكانه، لقد نجا بأعجوبةٍ، كنتُ أصرخُ وأبكي طالبةً منه الإسراع. مشينا قليلاً ثمّ أمرونا بالتوقف، تحدثوا معنا من خلف ساترٍ صنعوه من الرمال. لم يواجهونا مباشرةً، بل كانوا يختبئون خلفَ ذلك الساترِ، ويحدثوننا بالعربية عبر الميكروفونات. كنا مُحاطِينَ بالدبابات والكاميرات، لا أعلم كيفَ نجوْنا حتى الآن. وعندما وصلنا، بدأ الناسُ يُصافحونَ بعضهم، والأهالي يُقبّلونَ بعضهم بعضاً.
قال الطبيب عليكم الاختيار؛ أبي اختار ابنته، وأنا اخترت ابني
طوال الطريق وأنا أتألم، حملوني على كرسيٍّ متحركٍ وضعوه على عربةٍ يجرُّها حمارٌ ليأخذوني إلى خالتي تهاني، هي ممرضةٌ وتعيش في النصيرات. ثبَّتوني جيدًا على العربة، كانت الطرقُ غيرَ معبَّدةٍ، والعربةُ تهتزُّ مع كلِّ خطوةٍ، أخذت أصرخُ من الألمِ الذي لا يوصفُ، وكأنني أموتُ ذبحًا ألف مرةٍ مع كلِّ اهتزازٍ. جروحي كانت تنفتحُ وتنزفُ دمًا، وأصرخُ حتى وصلنا إلى النصيرات، منهكةً ومتعبةً، كدتُ أغيبُ عن الوعي. وضعوني على فراشٍ على الأرض، كنّا بلا طعامٍ أو شرابٍ، ضغطي كان منخفضًا. خالتي غادة أعطتني ماءً لأشرب، وغيرت لي جروحي مع أختي، ثم انتقلنا من النصيرات إلى رفح إلى بيتِ أقربائنا. ارتفعت حرارتي وكان هناك ألمٌ رهيبٌ في بطني، فأخذوني إلى المستشفى الأوروبي. كانت جروحي ملتهبةً، وأعادوا تغيير الضمادات. بعد أسبوعين بدأت علامات الولادة تظهرُ عليَّ، وأخبروني أنّ الولادة الطبيعية مستحيلةٌ، وأنه يجب إجراء عمليةٍ قيصريةٍ، لأن جسدي كان مقطعًا بالشظايا، ورجلي المتبقية بلا لحمٍ، مشلولةٌ، وكأنني بلا ساقين. أثناء الطلق، نقلوني إلى مستشفى ناصرٍ في خان يونس، إلى قسم الولادة. الطريق مليئةً بالحفر، الخبطُ والقصفُ أصبحا أمرًا طبيعيًا. عندما وصلنا إلى المستشفى، فوجئوا بأنّني مريضةُ سرطانٍ، وكان لا بدّ من إجراء تحاليلَ إضافيةٍ، فانتظرتُ عودةَ أبي وأخي من مختبرٍ في خان يونس. كنت أستمرُّ في الطلقِ، وبعد أربع ساعاتٍ عاد أبي، وقال الأطباء أن الولادة قد تكون مستحيلةً، وهم مضطرون أن يختاروا بين حياتي وحياة جنيني.
قال الطبيبُ لأبي: "عليك الاختيار بين حياتها وحياة جنينها". فردَّ أبي قائلًا: "لا أريد أن أخسرَها!" كان أبي يحبُّني كثيرًا، كنتُ مدلّلتُه. "أختارُ ابنتي" قال أبي. قلتُ: "لا أريد أن أخسرَ ابني! أنا أختارُ ابني"! الطبيبُ كان رائعًا، لم أعدْ أذكر اسمه، ولكن أعرفُ أنّهم قصفوه لاحقًا هو وزوجته وأطفاله، وماتوا جميعًا. وفي المستشفى الإندونيسي، أذكرُ الدكتور محمود مطر، الذي قصفوه هو وزوجته وأطفاله أيضًا. الطبيبُ الذي حاول إقناعي بأن أراهنَ على حياتي وحياة ابني كان عطوفًا ورحيمًا كأبٍ. ومن ثمّ لم أعرف ما حدث معي، فجأةً اختفى الطلقُ، ولم يكن ماء الرأس قد نزل بعدُ، والرحم قد انغلقَ تمامًا. احتار الأطباء، بقيت بعدها أسبوعًا كاملاً دون أن أَلد! في تلك الفترة الحرجة، ومع حالتي التي ظنُوا أنّها ميؤوسٌ منها، قرروا تحويلي إلى مصر. في ذلك اليوم، وصل الخبر أنّ اسمي أُدرج في قائمة الجرحى. كنتُ أشعر وكأنّ يومي يمرّ وكأنّه سنةٌ! كلّ ما أردته هو إنقاذ ابني. شعرت باليأس لأنّي حتّى لو استطعتُ ولادته، لم يكن هناك حليبٌ أو حفاضاتٌ أو طعامٌ، وأنا لم أكن قادرةً على إرضاعه بسبب السّرطان والتهابات جروحي المتفاقمة.
عبرتُ معبر رفح، نقلوني من الإسعافِ الفلسطينيِّ إلى الإسعاف المصريِ. الألمُ كان مستمرًا. سألني المسعفُ: "هل أنتِ حامل؟" فأجبتُ: "نعم، وهذا آخرُ يومٍ في الشهرِ التاسعِ". كانت الآلام تجتاحُ جسدي من كلّ مكانٍ، اختلطت آلامُ المخاضِ مع آلامِ الجروح، ولم أكن أدركُ أنّني في حالةِ ولادةٍ! كنت أصرخُ من الألم، معتقدةً أنّ ما أشعر به هو آلامُ جروحي فقط. وعندما وصلنا إلى مستشفى العريش، قال لي المسعفُ: "أنتِ في حالة ولادة! أنتِ تطلقين!" فأجبته: "لا، هذه آلام جروحي!" كنت أشعر وكأنّ كلّ خليةٍ في جسدي تُقطعُ بسكاكين. وفي نصف ساعةٍ، ولدتُ ابني! لقد نجا، أسميته "رأفت". ولدتُ في الرابع من ديسمبر. بعد ولادة رأفت، استشهدَ عمّي الدكتور أبو سمعان في جباليا. كان مثلَ والدي، مليئًا بالحنية والشهامة. جاء رأفت ورحل عمّي الحبيب. الآن ابنتي ما تزال تعيش في خيمةٍ، ولا تجدُ ما تأكله! وهي مصابةٌ. كنتُ أعيشُ مع أطفالي، وكان من المفترضِ أن تكون ابنتي في مدرستها، لكنّها الآن جائعةٌ، ولا يوجد لديها دواءٌ أو حتى ماءٌ صالحٌ للشرب، هي مريضةٌ. أخشى أن أفقدها. لا أعرف ماذا أروي وماذا أترك. في قصفٍ واحدٍ، قُتل مئة شخصٍ من عائلتنا. كنتُ في المستشفى عندما سمعت الخبر بين الغياب والوعي، لكنني كنتُ أسمعُهم يتحدثون. قنصُوا ابن عمي! استشهد حماي وعمّي وزوجي! حتّى عمتي غادة لم تنجُ. لم يبقَ الكثيرُ من عائلتي.
بعد ولادةِ رأفت، بدأتُ سلسلةً من العمليات في جسدي الممّزق والمقطع. ما زلتُ أذكرُ أنّهم قالوا لأمي: "اتركيها تموتُ بسلامٍ واذهبي". لم يعتقدوا أنني سأعيش، لكنّني عشتُ، أنا وابني! أرجوكِ، اذكري كلَّ هذا! عشتُ ولكنّ قلبي مات! اذكري أنّ زوجي بعد مجزرة المعمدانيّ، عندما رأى الأطفال الممزقين ورأى أشلاء أصدقائه تمنّى الموت وأراد الرحيل، كان راضيًا بمصيره، لم يكن يحتملُ هذه الحياة!