بعد سنوات من النزوح، وفترات من الحياة شديدة القسوة في مخيم الهول، وعودتهنّ إلى مدينة الرقة بكفالة عشائر المنطقة، تبحث كثير من النساء المتزوجات من مسلحين قاتلوا سابقاً في صفوف تنظيم "داعش" عن إجابات حول مصير أزواجهنّ وذويهنّ الذين يقبعون في سجون "قوات سورية الديمقراطية" (قسد).
تروي ساجدة، ذات الأربعين سنة، التي تتحدر من مدينة الرقة، أنها قضت أكثر من ثلاث سنوات في مخيم الهول، وعانت الأمرين هناك، وخرجت في منتصف العام الماضي بوساطة شيوخ العشائر، وتؤكد لـ"العربي الجديد" قائلة: "بعد عودتي بدأت رحلة معاناة من نوع آخر بسبب شعور الغربة حتى من أقرب الناس، من الأهل والجيران، فلا منزل، ولا عمل، ولا أوراق ثبوتية، والمستقبل مجهول".
قضت هذه النازحة أكثر من 10 سنوات من عمرها متنقلة بين مدن وبلدات شرقي سورية، والتي كانت خاضعة لسيطرة تنظيم "داعش" قبل إنهاء وجوده في شرقي الفرات في ربيع 2019، وتتابع بنبرة غاضبة: "منذ احتجاز زوجي في نهاية 2017، لا أعلم عنه أي شيء، وعند خروجنا من المخيم طالبت الوجهاء بمعرفة مصيره، وتلقينا وعوداً كثيرة منهم، ومن سلطات الإدارة الذاتية، لكن كلها كانت بلا جدوى".
نقلت سمية (21 سنة)، من المخيم إلى مدينتها الرقة بموجب اتفاقات بين قوات "قسد" ووجهاء المنطقة، وهي تقول لـ"العربي الجديد"، إنها كانت تأمل بالبدء بحياة جديدة، والتصالح مع ذاتها، ومع أهلها، لكنها صدمت برفض المجتمع لها، وعدم تقبل فكرة ارتباطها سابقاً بأحد عناصر التنظيم.
كانت ترتدي فستاناً أسود مطرزاً بخيوط من اللون الذهبي، وتابعت سمية: "في البداية، أغلب الأهالي رفضوا التعامل معنا، وأصروا على إعادتنا إلى الحديث عن الماضي، على الرغم من أننا نريد أن ننسى تلك الفترة. منذ مغادرة مخيم الهول قبل عامين، لم أشعر بالراحة، لا على الصعيد المعيشي ولا النفسي. كنت مندمجة مع سكان المخيم فكرياً واجتماعياً، لكنني أعاني حالياً من تعدد الآراء والأفكار من حولي في المجتمع، ووجود بعض الأهالي الذين يرفضون وجود نسوة كانوا على صلات بالتنظيم. كان سكان المخيم أرحم من بعض أهالي الرقة، ويراودني شعور بالندم يومياً خلال التعامل مع هؤلاء الذين يرفضوننا".
قضت رفيدة (30 سنة)، 4 سنوات في مخيم الهول، وعادت إلى منطقتها في بداية العام الحالي، وتعزو سبب الأزمة إلى تغير السلطات الحاكمة للمنطقة الواقعة في شمالي سورية، وتوضح لـ"العربي الجديد"، أن "الجيران ينفرون حتى من أطفالي، وفي كثير من المواقف أتفادى التشاجر مع جاراتي بسبب مواقفهن، فقد اعتدت على هذه المواقف".
تشارك رفيدة في الجلسات، وتطرح رأيها وتجربتها علها تكتسب ثقة الأهالي وتفيد من حولها، تقول: "أحاول جاهدة متابعة هذه الجلسات وأحضرها بشكل دوري، لكن شعور عدم التقبل من بعض الأوساط الاجتماعية بات سائداً، لذا أسعى للاندماج لكن البعض لا يتقبلونني".
حسن الخمري، وهو وجيه من عشيرة الناصر، يتحدر من بلدة الطبقة، وهو أحد الأشخاص الذين لعبوا دوراً بارزاً في إخراج العوائل من مخيم الهول، وفي حديثه مع "العربي الجديد"، يؤكد أن "لجان حل النزاع" تأسست في أواخر 2021، ويقول: "هذه اللجان مشكلة من زعماء عشائر وقادة مجتمعيين وناشطين مدنيين يتمتعون بثقة الأهالي، ومهمتها دراسة قوائم العوائل العائدة من المخيم، والوقوف على احتياجاتهم والعمل على تأمينها".
وشدد الخمري على أن العديد من العوائل بعد عودتها واجهت مشاكل اقتصادية، وقضايا مثل حقوق الميراث، واستعادة منازلها، وحل النزاعات التي حدثت خلال سنوات سيطرة التنظيم على المنطقة، مشيراً إلى أن "أكبر التحديات التي وقفت عائقاً أمام نجاح العمل هي كيفية دمج العائلات الخارجة من مخيم الهول مع المجتمع المحلي، إضافة إلى مشاكل اجتماعية أخرى، وتحاول اللجنة قدر المستطاع حل هذه المشاكل، ومساعدة العوائل، ونجحت في معالجة كثير من القضايا، وحل معظم الشكاوى والنزاعات".
وتقول منيفة، وهي أم لثلاثة أطفال، إنها كانت محظوظة لقبول عائلتها في قوائم الخروج من مخيم الهول في صيف 2019، وعودتها إلى مسقط رأسها في قرية المنصورة بريف الرقة، وتضيف متحدثة لـ"العربي الجديد": "غادرت المخيم من أجل تعليم أطفالي، لكنهم حرموا من مقاعد الدراسة بسبب عدم وجود وثائق ثبوتية شخصية، وقد ندمت كثيراً لأنني تركت المخيم".
وأخبر القاضي محمد الدعيل، وهو استشاري قانوني في "لجان حل النزاع"، "العربي الجديد"، بأن "الكثير من النساء والأطفال الذين خرجوا من مخيم الهول لا يمتلكون بطاقات شخصية، إما لأنها تلفت، أو ضاعت، أو لم تستخرج أصلاً بسبب النزوح المتكرر، وعدم الإقامة الدائمة بمكان محدد، إلى جانب وجود كثير من الأطفال الذين ولدوا في بداية الحرب، ولم يتم تسجيلهم كمواليد، واليوم تجاوز عمر بعضهم العشر سنوات".
وأكد الدعيل "ضرورة استخراج الوثائق الشخصية من الإدارات المدنية في كل من الرقة وريف دير الزور، وأن تخول لصاحبها التنقل بين مناطق الإدارة الذاتية إذا كان من سكان هذه المناطق، أما الوافدون من سكان غير هذه المناطق فسيحتاجون إلى كفيل من المنطقة نفسها، أو بطاقة زيارة من شخص مقيم، وتكون الزيارة لغرض وزمن محددين".
وقال المدير التنفيذي لمنظمة "شباب أوكسجين" بشار الكراف، لـ"العربي الجديد"، إن "الورشات والأنشطة التي تنظمها الجمعيات سلطت الضوء على احتياجات النساء والأطفال العائدين من مخيم الهول، ونناقش معهم سبل استقرار العائلات وتعزيز السلم الأهلي في المجتمع وصولاً إلى حل كافة المشاكل من خلال الحلول الفردية". ويضيف الكراف: "ساهمت اللجان والمنظمات المدنية في تخفيف الصورة النمطية حول العائلات العائدة لمسقط رأسها، والتي تحررت من تهمة تبعيتها لفصيل عسكري، فهؤلاء واجهوا مشاكل التنمر، والشعور بالعزلة والرفض، وكل العائلات مؤلفة من نساء وأطفال أبرياء لا ذنب لهم في الحروب، وهدفنا دمجهم وأن يتقبلهم الجميع ومساعدتهم لطي صفحة الماضي ونسيان أهوال الحرب".