تُنذر الأزمة الاقتصادية اللبنانية وما يرافقها من غلاءٍ فاحشٍ في أسعار المواد الغذائية والسلع الاستهلاكيّة، بتدهورٍ صحي اجتماعي من المرجّح أن ينعكس ارتفاعاً في نسبة الأمراض المزمنة والمشاكل الصحية بشكل عام، ونقص النمو لدى الأطفال، من جرّاء تبدّل الأنماط الغذائية اليومية واستغناء العديد من المواطنين والمقيمين عن الأصناف الضرورية والحيوية، لا سيّما اللحوم والأسماك وحتّى الدجاج والألبان والأجبان والعديد من منتجات الخضار والفاكهة.
ويقول طبيب الصحة العامّة والأمراض الداخلية ماجد أبو ظهر، لـ"العربي الجديد"، إنّ "تبدّل الأنماط الغذائية نتيجة عدم القدرة على شراء اللّحوم والأسماك والدجاج وحتّى الخضار والمواد الغذائية والاستهلاكية بغالبيّتها، سيؤدّي إلى فقدان مكوّنات الهرم الغذائي وارتفاع معدّلات سوء التغذية، وبالتالي تفاقم أمراض الضغط والسكري ونسبة الدهون في الدم، ناهيك عن المشاكل والمخاطر الصحية الأخرى، في ظل انعدام فرص الوقاية والعلاج، ما يؤدي إلى ضعف جهاز المناعة".
يضيف: "بات التركيز اليوم على الأصناف الغنيّة بالنشويات، كالمعجّنات والمعكرونة والفاصولياء والأرز وغيرها، بالإضافة إلى تلك الغنيّة بالسكر والدهون. وتكون المشكلة أكبر لدى الحديث عن المرضى الذين لا تتوفر لهم الأنظمة الغذائية اللازمة، ولا حتّى الأدوية المطلوبة، لا سيّما أدوية الأمراض المزمنة. وبالتالي سنشهد كارثة صحية اجتماعية في قطاعي الغذاء والدواء".
ويحذّر أبو ظهر من أنّ "عدم قدرة العديد من الأهالي على شراء حليب الأطفال سيؤدي إلى مشاكل في النمو وجهاز المناعة لدى الأبناء، لا سيّما في ظلّ انتشار جائحة كورونا وبدء موسم الزكام والانفلونزا، وما تتطلّبه هذه الفيروسات من مناعة قوية لدى الكبار والصغار".
من جهتها، تشير المتخصصة في علوم التغذية والكيمياء الحيويّة نيفين بشير، إلى أنّ "ارتفاع سعر صرف الدولار أدّى إلى فقدان العديد من العناصر الغذائية الأساسية من الأسواق، أو إلى تضخّم أسعارها، وتحديداً اللحوم والأسماك والدجاج. وهذه أصناف مهمّة جداً تنتمي إلى فئة البروتين الحيواني، كما أنّها غنيّة بالحديد وفيتامين ب. ومن الضروري إدراج أحد هذه الأصناف في نظامنا الغذائي اليومي. إلا أنّ البعض لا يستطيع تأمين أحد هذين المكوّنتن الأساسيين، ويلجأ إلى البقوليّات أو المأكولات الأرخص سعراً. لكن بطبيعة الحال، سنشهد نقصاً في العناصر الغذائية والأملاح المعدنيّة والفيتامينات الضرورية للجسم، مثل الحديد والفيتامين B - Complex والزنك".
وإذ تشدّد على أنّه "ما من شيءٍ يعوّض البروتين الحيواني مائة في المائة"، إلا أنها تقول لـ"العربي الجديد": "من الضروري تعويض الفيتامينات والبروتينات والأملاح التي يحتاجها الجسم يوميّاً، بغذاءٍ ثانٍ يعتمد على البقوليّات والحبوب، مثل الحمص والفول والعدس والبرغل، والتي ما زالت أسعارها مقبولة. إلا أن البروتين النباتي الموجود في البقوليّات بجب تناوله مع مكوّنٍ غذائي ثانٍ، كي يحصل الفرد على بروتين كامل نوعاً ما". وتركّز بشير على "ضرورة إضافة عصير الليمون الحامض إلى الحبوب والبقوليّات، لزيادة قدرة الجسم على امتصاص الحديد. لكن في ظل غلاء سعر الحامض، يمكن البحث عن أيّ نوع من الحمضيات الأرخص".
تضيف: "في ظل انتشار فيروس كورونا وبدء موسم الرشح، يجب تناول المأكولات الغنيّة بفيتامين سي (C)، مثل الليمون والحمضيّات والكيوي والفليفلة والتوت على أنواعه، وذلك لتعزيز وتقوية جهاز المناعة، وتلك الغنيّة بفيتامين أ (A) الموجودة مثلاً في الجزر، والفيتامين E الموجود في زيت الزيتون الطبيعي. كما من الضروري الحصول على السيلينيوم والزنك الموجودَين عادةً في اللحوم. لكن في ظل الأزمة الراهنة، يمكن تعويضهما بالاعتماد على الحبوب الكاملة"، متحدّثةً عن "فوائد هذه العناصر الغذائية، كونها تُعدّ مضاداتٍ للأكسدة، وكذلك الأعشاب أو البهارات التي تقوّي جهاز المناعة مثل الزنجبيل والكركم".
وتختم بشير حديثها قائلة: "أمّا بالنسبة للنباتيّين، فهم الأكثر عرضة للخطر حالياً في حال عدم قدرتهم على شراء المنتجات اللازمة، إذ لا خيار أمامهم سوى الخضار والفاكهة والحبوب والبقوليّات".
لا غذاء صحياً سليماً
من جهتها، تقول المتخصّصة في التغذية والأستاذة المحاضرة في الصحة العامّة زهراء بيضون، إنّ "الأزمة الاقتصادية تمنع الكثير من العائلات من اعتماد غذاءٍ صحي سليم، إذ إن ارتفاع الأسعار يحدّ من استهلاك اللحوم والأسماك والدواجن ومنتجات الألبان والأجبان والفاكهة والخضار، التي تعد عناصر رئيسية للغذاء، ما يؤدي إلى نقص في الفيتامينات والمعادن الأساسية". وتقول لـ"العربي الجديد": "يؤدّي فقدان فيتامين أ الموجود في الحليب والخضار ذات الأوراق الخضراء والبرتقال والأسماك، إلى مشاكل صحية خطيرة لدى الأطفال والمراهقين، نظراً إلى دوره الحيوي في عمليّة النمو الطبيعي وترميم أنسجة الجسم، وضمان الأداء السليم للجهازين البصري والمناعي". تضيف: "أمّا الكالسيوم، فقد كان معدّل استهلاكه لدى أطفال المدارس اللبنانيّة، قبل الأزمة الراهنة، أقل ممّا يحتاج إليه الجسم بنسبة 45 في المائة". وتشير دراسات سابقة إلى أنّ 66 في المائة من البالغين اللبنانيّين يستهلكون في المتوسط 37 في المائة أقل من المعدل المطلوب يوميّاً من الكالسيوم، ما ينذر بمشكلة أساسية، خصوصاً في الوقت الراهن، إذ نتوقع تدنّي المعدلات بسبب عدم القدرة على شراء الحليب ومشتقاته"، محذّرةً من أنّ "نقص الكالسيوم يمكن أن يسبّب مرض الكساح rickets في الطفولة المبكرة وهشاشة العظام وارتفاع ضغط الدم في سن متأخر".
وتؤكّد بيضون على أهميّة فيتامين B12 في الحفاظ على أداء الدماغ وتدفّق الدم، وهو فيتامين موجود بشكل أساسي في المنتجات الحيوانية. لذلك، يعاني النباتيّون من نقصٍ فيه. أمّا لدى الأطفال، فغالباً ما يظهر النقص من خلال أعراضٍ غير محدّدة، مثل تأخر النمو، التهيّج irritability والمشاكل العصبية"، لافتةً إلى أنّ "المصدر الأساسي للحديد يكمن في اللحوم الحمراء والبقوليّات والعدس والحبوب الكاملة والسبانخ المطبوخة، غير أنّ الجسم يمتص الحديد ضعفين إلى ثلاثة أضعاف من المصادر الحيوانية أكثر منه من المصادر النباتية. كما أنّ نقص الحديد قد يزيد مخاطر الإصابة بفقر الدم، والذي ينتشر بين الأطفال على نطاق واسع. وباعتبار أن فقر الدم أثناء الحمل يؤدي إلى مضاعفات أثناء الولادة، من بينها الولادة المبكرة، وانخفاض وزن المولود، وزيادة وفيات الرضّع والأمهات، يجب التأكّد من أنّ الحوامل والأطفال يأخذون كميات كافية من الحديد".
وتكشف عن "احتمال نقص في الزنك في حال التوقّف عن استهلاك المصادر الحيوانية الغنيّة به، مثل اللحوم الحمراء والألبان والأجبان والبيض، ما يؤدّي إلى ضعف جهاز المناعة وتأخر النمو لدى الأطفال، ما ينعكس سلباً مع انتشار فيروس كورونا والأنفلونزا الموسميّة، خصوصاً أنّ الأطعمة النباتية تحتوي كمياتٍ محدودة من الزنك، ويُعدّ معدّل امتصاصها من قبل الجسم منخفضاً". وتؤكّد على "خطورة استهلاك المعلّبات لاحتوائها على كميات كبيرة من الصوديوم، والتي من الممكن أن تزيد من خطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والأوعية الدموية. وكذلك الحال نتيجة الاستهلاك الكبير للمعجّنات، وما سيترتّب عنها من مخاطر بدانة وأمراض سكري وقلب وضغط".
بحث عن الأرخص
من جهته، يأسف المواطن نزار حيدر لما آلت إليه الأوضاع المعيشية في البلاد، قائلاً لـ"العربي الجديد": "لم نعد نملك القدرة على شراء اللحوم والأسماك وكذلك المعلّبات، وبتنا نعتمد على الخضار الرخيصة أو المقبولة، واستغنينا عن الغالي منها، مثل الليمون الحامض، والفاكهة، ولجأنا إلى زراعة الخضار والبقوليات. ويتنا نشتري الدجاج كونه أرخص، لكن مرة كل أسبوعين. لم نعد نقصد المطاعم كما كنا سابقاً، حتّى ولو مرة في الشهر. وكأن جميع اللبنانيين باتوا يصنّفون ضمن طبقة اجتماعيّة واحدة، ويلهثون خلف المواد والسلع والبدائل الأكثر رخصاً".
وتتحسّر ربّة المنزل ليلى ملاعب على الوضع الاقتصادي الصعب الذي لم يستثنِ أحداً، والذي "أجبرنا على تغيير عاداتنا الغذائية والاستهلاكية، منها عدم القدرة على شراء اللحوم كما جرت العادة. أصبحت أولويّتنا تأمين المواد الغذائية الأساسية وإعداد المؤونة المنزلية".