أعاد إعلان فتح أبواب مساجد إزمير أمام المتضررين من الزلزال الأخير، التفكير بموقع المساجد في حياة الأتراك، وما يمكن أن تؤديه من مهام مجتمعية، إلى جانب دورها الديني
بعد وصول حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى السلطة في تركيا عام 2003، جرى بناء نحو تسعة آلاف مسجد إضافي. وهو ما عزز الافتراض بعودة الدور الذي تراجع لهذه المراكز التعبدية الأساسية، بعد فترة حكم مؤسس الجمهورية، مصطفى كمال أتاتورك (1923- 1938) التي حاولت تغييب الأدوار الاجتماعية والسياسية للمساجد، بل أغلقت كثيراً منها، وحولت أخرى إلى مخازن.
تقول معلمة التاريخ، في مدارس "الإمام الخطيب" آيسون تاتلوسوزلار، لـ"العربي الجديد" إنّ القضية ليست فعلاً وردّ فعل، بقدر ما هي استعادة الدور الحقيقي لأماكن العبادة، فهي في الأساس ولدى جميع الأديان، تأخذ الدور التربوي والمجتمعي، كهدف موازٍ لكونها أماكن ممارسة العبادة. وفضلاً عن تدريس التعاليم الدينية وتحفيظ القرآن، ضمت المساجد أماكن إيواء، وهي مساحة مقتطعة من المسجد يأوي إليها من لا مأوى لهم، وزاد الاهتمام بالجانب التعليمي والمجتمعي وتنشيط المكتبات المرافقة لمعظم المساجد بتركيا. وتشير تاتلوسوزلار إلى أنّ تركيا، شهدت منذ أعوام، اتفاقية بين وزارة الشؤون الدينية ووزارة البيئة، تهدف إلى إعادة توزيع المساجد المقرر إنشاؤها، ليصبح في كلّ حي وميدان ومجمع سكني مسجد، وذلك لإحياء دور المساجد مجدداً، فلا تقتصر على كونها أماكن للعبادة، بل تضم أماكن للجلوس والتقاء الأصدقاء والقراءة، معتبرة أنّ استعادة الأدوار المجتمعية التفاعلية وعودة النساء إلى المساجد، هي من أهداف تركيا التي تتيح حرية الأديان للجميع.
وتنظم تركيا سنوياً منذ عام 2003، فعالية "أسبوع المساجد والعاملين في مجال الشؤون الدينية" بهدف التذكير بمكانة المساجد التاريخية والحضارية في المدن والتعريف بدورها المجتمعي والثقافي. ومن أهداف أسبوع المساجد بحسب بيانات الشؤون الدينية التركية، إعادة الفهم الصحيح للمساجد والتأكيد على أهميتها الحضارية، لما لها من دور وتأثير في تشكيل العلاقات في الدولة وبناء منظومة تعليمية على أسس قانونية وأخلاقية.
ويقول رجل الدين من منطقة باغجلار، بإسطنبول، محمد خلف لـ"العربي الجديد" بخصوص هذه الأدوار: "لا برنامج ثابتاً بل تتعلق المسألة بثقافة الإمام أو الواعظ، ومدى قدرته على إسقاط التسامح الديني، على الحياة المجتمعية، فمثلاً قبل صلاة الجمعة هناك خطبة تأخذ الشكل الوعظي المجتمعي، أكثر مما تركز على أحداث الماضي كما في معظم الدول العربية. هنا نركز على دور الأسرة بالتنمية، ودور الأم بالتربية، والنظافة، واحترام الآخر والأديان، والالتزام بالمواعيد وشؤون أخرى كثيرة، كما يتاح المجال بعد الصلوات، للأسئلة والنقاش بشؤون لا تقتصر على الدين". وحول المساجد التي تتولى حتى اليوم أدواراً مجتمعية، يضيف أنّ مسجد الفاتح يقوم بدور تعليمي كبير، كما أنّ فيه مكتبة ضخمة بمتناول الجميع، وكذلك جامع السليمانية وما يحوي من مكتبة وأرشيف ضخمين، مواكباً آخر تطورات التكنولوجيا، ولا يغفل عن مسجد أيوب سلطان أيضاً. ويختم خلف أنّه "ليس للمساجد بتركيا حالة الرهبة والمنع، فهنا أبواب المساجد مفتوحة للسائحين والنساء من مختلف البلدان والديانات، إذ يمكن أيّ سائح أو سائحة الدخول إلى صحن المسجد والجلوس والتصوير وتوجيه الأسئلة، وهذا ربما ما يميز دور المساجد بتركيا".
من جهته، يؤكد الباحث وهبي بايصان، على "توسع دور المساجد نظراً لأعداد المصلين الكبيرة ومدى تأثير الخطيب أو الإمام، فالمساجد ليست أوقافاً دينية فحسب، بل أماكن تنشر المساواة والتضامن وتزيد من المعارف، حتى غير الدينية، فالمنابر ودور العبادة كانت أساس أماكن التربية والإخاء كما أنّها أولى مصادر المعرفة والعلم عبر التاريخ". ويلفت الأكاديمي من جامعة "ابن خلدون" بإسطنبول "العربي الجديد" إلى أنّ "دور المساجد يتعاظم، مجتمعياً بواقع ما نرى من صراع حضارات وخلافات تصل إلى حدّ الجريمة، أو ما يروّج من إساءات للأديان ودور العبادة، وهكذا فإنّها المكان الأنسب لنشر التسامح، كما المدارس" مشيراً إلى دور المساجد بإفشال الانقلاب عام 2016، عندما نادت المآذن الأتراك للنزول إلى الشوارع والساحات للدفاع عن دولتهم وحقوقهم ومكاسبهم.
وسبق لمفتي إسطنبول حسن كامل يلماز، الإعلان بعد اتفاقية رئاسة الشؤون الدينية ووزارة البيئة والتخطيط العمراني التركية، أنّه سيتم تقسيم المساجد إلى فئات بحسب الموقع الجغرافي، وكلّ مسجد سيحتوي على معايير ملزمة، لافتاً إلى أنّ المساجد لن تكون للصلاة فقط بل ستضم أماكن للقراءة، وتوفر للمواطنين الذين يشعرون بالضيق لكثرة الجلوس بين الجدران مساحة يقصدونها للقاء أقرانهم، مبرراً تلك التعديلات بتراجع علاقة المواطنين بالمساجد بصورة كبيرة لتقتصر على أداء الصلاة فقط.
يذكر أنّ تركيا تضم 84 ألفاً و684 مسجداً، وتأتي إسطنبول الأولى من بين مدنها، بنحو 3269 مسجداً، تليها قونيا بـ3115 مسجداً، ثم العاصمة أنقرة بـ2955 مسجداً.