مجازر مخيم جباليا | عن إبادة إسرائيل لعائلة جبر حميد...خسرت كل شيء (11)

لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم. ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد المزيد من أرواح الأبرياء.

قبل عشرين عاماً، حين كنت في المرحلة الإعدادية، في إبريل/ نيسان عام 2004، تعرض صديقي وجاري جبر حميد (16 عاماً) لحادث سير أدى إلى إصابته بكسور بالغة في الحوض والركبة اليمنى، بقي طريح الفراش قرابة أربعة أشهر، وقد ركّب له جهاز حديدي في ركبته من شدة الحالة التي تعرض لها.

قبل الحادثة، كان جبر الذي تعود جذوره إلى بلدة برير المحتلة حين يعود من المدرسة وقت الظهيرة، يتناول وجبة الغذاء ويهرول للعمل صحبة والده وأخيه في متجر صغير لبيع وتصليح الأجهزة الخلوية. كان متفانياً وخدوماً ولا وقت له للعب كأقرانه في ذلك الوقت. أما بعد الحادثة، فقد أصبح يجر نفسه بكرسي متحرك إلى المدرسة ثم إلى العمل. استمر جبر على هذا الحال، يحارب واقعه والجهاز المثبت على ركبته قرابة عام، لقد كان نموذجاً لنا وكنا نعتبره "بطلاً خارقاً".

مرّت الأيام.. وتعافى الشاب ووسّع متجر والده، كما افتتح صالون حلاقة، يعد الأكبر في مخيم جباليا، بجانب أعمال حرة مختلفة... حين بلغ 34 عاماً تزوج من إيمان أبو القمصان (33 عاماً) من بلدة دير سنيد المحتلة، وأنجبا أربعة أطفال، أكبرهم يامن (عشرة أعوام) ثم هيا (ثمانية أعوام) وثالثهم زين (خمسة أعوام)، وآخر العنقود يزيد (ثلاثة أعوام).

مع بداية الإبادة القائمة على قطاع غزة، ونيل مخيم جباليا نصيب الأسد من الهجمات الإسرائيلية، ومن شده خوفه على أسرته، أرسل جبر زوجته وأطفاله الأربعة للاحتماء في بيت والدها في حي السنايدة "بلوك 6" في عمق المخيم شمالي غزة. صحيح أنه لا يوجد مكان آمن، لكن قصر المسافة بين موقع متجر جبر وبيت عائلة زوجه، كان خياراً استراتيجياً بالنسبة له، خاصة أنه يبعد قرابة 200 متر.

عصر يوم 31 أكتوبر 2023، أي قبل عام ونيف، بينما كان جبر يتابع شؤون عمله، وفي لحظة خاطفة، انهال زجاج المتجر وارتطم الشاب في أحد الجدران بفعل الانفجار الذي ولدته ست قنابل سقطت على الحي الذي يحتمي فيه أطفاله وزوجته وعائلتها. استجمع جبر قواه، كحال الشبان والرجال المحيطين في المكان، وبدأوا يهرولون جماعات إلى الحي بعد ما انقشعت سحب الغبار.

حين وصل جبر إلى منزل عائلة زوجته، دخل في حالة هستيرية، وقد وثّق أحد الصحافيين مقطع فيديو خاص له وهو يبحث عن أطفاله وزوجته ويقف في حفرة كبيرة قطرها قرابة 50 متراً بعمق ثلاثة أمتار.

لا عبارات تسعف في وصف حالته في ذلك الوقت، لقد فقد كل أسرته... للأسف لم يتم العثور على جثث أطفال جبر، سوى جزء صغير من جثة زوجته، وقد ظل يبحث لأسابيع كثيرة مكان تلك الحفرة لكنه لم يجد شيئاً.

مخيم جباليا... حقل تجارب إسرائيل

أين اختفت الجثث؟ الجواب هو أن إسرائيل، إلى جانب أنها تريد مسح ما تبقى من مخيم جباليا من حجر وبشر، تتخذه حقل تجارب لأسلحتها الفتّاكة، فطبيعة القنابل التي تتساقط على سكان أهالي غزة في هذه الإبادة متطورة غير مسبوقة، خلافاً للهجمات الإسرائيلية السابقة، أنواع من تلك القنابل تستطيع أن تبيد كل شيء، لدرجة حين تسقط على منزل تستطيع أن تبيد الجدران والإنسان وتترك أثراً واحداً هو رائحة البارود وحفرة كبيرة.

أذكر أن هذا النوع من القنابل استخدمته إسرائيل بالهجوم على أحد الأنفاق في منطقة تعرف بالعين الثالثة عام 2014، شرق خانيونس، وكان فيها مقاتلون من كتائب القسام. طواقم الإنقاذ التابعة للكتائب لم تعثر على جثث الشهداء الخمسة، وتداول وقتها أن الجثث قد تبخرت. ليس معروفاً ما هي المادة التي توضع في تلك القنابل، المعروف أنها قادرة أن تمسح جسد إنسان بالغ في لحظة ولا تبق له أثر.

هناك نوع آخر استخدمته إسرائيل لأول مرة في هذه الإبادة، حين يسقط على المنزل المستهدف، لا يترك سوى الأشلاء، أذكر أنه في أحد مدارس الإيواء في حي الشيخ رضوان، ارتقى قرابة عشرة أفراد من عائلة واحدة، ولم يتم العثور سوء على أشلاء وقطع صغيرة.

بعد فجيعة جبر ومرور الذكرى الأولى لرحيل العائلة، قال لـ"العربي الجديد": "ليس الألم في أيام الفقد الأولى، إنما هو وجع الفراق المُتجدد الذي لا يموت، إنها التفاصيل التي تذبحك بها الذاكرة".

يستذكر جبر زوجته الشهيدة إيمان، ويصفها بالهدوء والاتزان: "الأمر الذي ساعدني في توسيع دائرة أعمالي، هو أن لديّ زوجة قوية ومتزنة وصالحة، ترعى بيتها وأبناءها، كانت تحمل عني العبء الكبير، وأعطتني مساحة لحياتي العملية". كان يرى في ابنه البكر يامن، النسخة الثانية عنه، وكان يجهزه ليخلفه في أعماله: " يامن كان ذكيا، كان يرافقني كثيراً إلى المتجر، حتى أنني كنت أشاوره في بعض الأعمال، كان صديقي الصغير وشريك أعمالي".

قضايا وناس

التحديثات الحية

مجازر مخيم جباليا | قصة استشهاد إنعام "أمّ القطط" وعائلتها (10)

أما طفلته هيا فيصفها بـ"فراشة البيت"، ويرى أنها جاءت إلى الدنيا وقد فتحت له بوابة رزق كبيرة، يستدرك قائلاً: "هيا وجه الرزق والسعادة، مع مجيئها أعطاني الله من وسعه، رسمت في مخيلتي أن هذه الفتاة ستصبح امرأة ناجحة مثل أمها". وفي الحديث عن الصغيرين زين ويزيد، كان يحلم أن يكونا من أصحاب الشهادات العليا، "على عكس يامن، كنت أرسم خطة لزين ويزيد من الناحية العلمية، ما كنت أريدهما أن يسلكا الطريق التجاري، كنت أتمنى أن يدرسا ويحصلا على شهادة الدكتوراه في المجال الذي يختارانه، فهذا الجانب كنت أفتقر له وكنت أحلم أن أراه في أبنائي".

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فبعد فاجعة جبر بـ36 يوماً، تدمّر متجره وسُويّ بالأرض، حين ارتكبت إسرائيل مجزرة في المنزل الذي يستأجره به، وقد ارتقى قرابة 15 شخصاً. في غمرة مأساة جبر، اختصر حديثه ببيت شعري لعدي بن ربيعة حين نعى الزير سالم شقيقه كليب قائلاً: "ليت السماء على من تحتها وقعت** وحالت الأرض فانجابت من فيها".