استمع إلى الملخص
- يستعيد ذكريات الطفولة في حي السنايدة، حيث تعلم الأطفال دروس الرفق بالحيوان من الحاجة إنعام أبو القمصان، التي كانت شخصية محورية في الحي.
- يصف الدمار في حي السنايدة في 31 أكتوبر 2023، حيث فقدت عائلة أبو القمصان العديد من أفرادها، ويسلط الضوء على معاناة الأطفال الناجين في ظل الحصار.
لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا، شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم. ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد المزيد من أرواح الأبرياء.
في عام 1997، تسلّل إلى حي السنايدة "بلوك 6"، في قلب مخيم جباليا، قطّ ضخم لونه رمادي، ورأسه بحجم كرة "البولينغ"، لديه عين واحدة، وقد أثار الرعب بيننا نحن الصغار، وأطلقنا عليه لقب "الأعور"، ولم نهنأ باللعب على راحتنا آنذاك... غير أننا في أحد الأيام، اجتمعنا بشغب طفولي ونصبنا له كميناً وانتظرنا موعد قدومه، وما أن وصل، حتى رشقناه بالحجارة، لكن فجأة ظهرت الحاجة إنعام أبو القمصان (72 عاما)، وصرخت علينا قبل هروبنا منها. أذكر أن القط تعرض لجروح في قدميه ورأسه.
أخذت الجارة الطيبة القط إلى منزلها، ضمّدت جراحه وأطعمته، ثم قامت بجولة على منازل أطفال الكمين وقد كنت واحدا منهم، تلقيت توبيخا من والديّ وبعض النصائح حول أهمية الرفق بالحيوان من إنعام، وهو نفسه ما حدث مع رفاقي. بعد أسبوعين على واقعة القط، أرسلت الحاجة إنعام التي كانت أكبر نساء الحي، ابنها محمود إلى منزلنا، ليبلغ أمي بطلب حضوري عندهم، وذلك ما كان، عند وصولي فوجئت بأن كل أصدقاء الحي هناك في المنزل. كانت تلك الدعوة من الحاجة إنعام المتزوجة من العم زياد أبو القمصان (74 عاما)، والتي لديها عشرة أبناء، خمسة ذكور وخمس إناث، لنشاركها فرحة إنجاب قطتها ثمان قطط صغيرة، أذكر أننا كنا في فصل الشتاء، كانت قد غطت القطة الأم بوشاح صوفي لونه أزرق، ووضعت لها طبقا صغيرا من الماء واللبن.
جلسنا بشكل دائري، وعيوننا شاخصة على متعة إرضاع القطة لأطفالها، أعدّت لنا الحاجة إنعام الشاي، ومرة أخرى أعادت علينا توجيهات الرفق بالحيوان وتجنب الاعتداء عليه. لقد كانت أول مُعلمة لنا في الصغر، عن كيفية الرفق بالحيوان فعلاً وقولاً.
قبل الإبادة الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، وفي غمرة الحملة العسكرية على مخيم جباليا بنحو شهرين، توفي أحد أبناء العمة إنعام، ويدعى أحمد (37 عاما)، إذ كان يعاني من مرض في الجهاز التنفسي، كان متزوجا ولديه ابنان، هما محمد (14 عاما)، وهيا (تسعة أعوام). كانت هذه أول حالة حزن تضرب عائلة أبو القمصان.
لكنها لم تكن آخر الأحزان كما يقال، ففي يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحوّل حي السنايدة الذي كان يعد بين أهالي المخيم الأكثر أمنا، إلى أكبر مقبرة جماعية في تاريخ الصراع، حين ألقت الطائرات الحربية الإسرائيلية ست قنابل مدمرة تزن كل واحدة منها طنين اثنين، أي 12 طنا من المتفجرات سقطت على قرابة 40 منزلا مغطى بالقرميد.
من بين تلك المنازل التي مُسحت منزل الحاجة العطوف إنعام "أم القطط"، التي استشهدت ومن معها. والشهداء الذي تجاوز عددهم عشرة هم: إنعام أبو القمصان (72 عاما)، زوجها عبد الله زياد أبو القمصان (46 عاما)، محمود زياد أبو القمصان (34 عاما)، زوجته وسام العاصي (27 عاما)، الطفل محمد أحمد أبو القمصان (14 عاما)، فؤاد أبو القمصان (68 عاما)، زوجته شفى أبو القمصان (65 عاما)، أحمد خالد أبو القمصان (34 عاما)، وطفله خالد أحمد أبو القمصان (سبعة أعوام).
من بين الشهداء محمود، الذي دعاني إلى جلسة ولادة القطة، كان ضخم البنية، يتمتع بروح مرحة، وهو زميل الدراسة في المرحلة الإعدادية، كان حارس مرمى فريق منتخب المدرسة لكرة القدم...غير أنه لم يكمل تعليمه وتوجه مبكرا إلى سوق العمل في عدة مطاعم إلى أن أصبح طباخا ماهرا، تزوج من وسام، وأنجبا عبد الله (خمسة أعوام) وليان (أربعة أعوام)، وهما من بين الناجين.
أطفال ناجون في مخيم جباليا... لنا أحلامنا رغم الجوع والحصار
من وسط الدمار والأنقاض، ورغم هول المشاهد وبشاعتها، ومرارة الفقدان، فإن الحياة كتبت لأربعة أطفال من عائلة أبو القمصان، وهم الطفلة هيا، ابنة أحمد الذي توفي قبل الإبادة بمدة قصيرة، تعرضت لإصابة بالغة في يدها اليمنى، وهي حاليا محاصرة في مخيم جباليا، وبجانب أنه لا يوجد علاج طبيعي أو مسكنات طبية، تعيش الخوف من الضربات الجوية والبحرية والبرية الإسرائيلية. "هيا" تكاد تكون أكثر الأطفال حزنا في هذا العالم؛ اجتمع عليها كل شيء، فقدت والدها، وبعد شهرين استشهد شقيقها وأصيبت وتشوهت يدها اليمنى، وبعد قرابة 400 يوم من اليُتم وآلام الإصابة، هي الآن محاصرة وجائعة. ورغم كل البؤس المحيط بها، ما زالت تحلم بأن تصير فنانة تشكيلية تطور موهبتها الطفولية، رغم إصابتها وفجيعتها.
طفلا محمود أبو القمصان عبد الله (خمسة أعوام)، وليان (أربعة أعوام)، خرجا من بين الأنقاض دون خدوش ظاهرية، لكن يتيمان ووحيدان، وهما محاصران في أحد المنازل بالمخيم تحت رعاية عمهما حمودة (44 عاما).
في ظل الحصار والحملة العسكرية الإسرائيلية، أرسل إلي حمودة رسالة نصية يقول فيها: "لدي أطفال أيتام مصابون ومرعوبون، لا دواء ولا طعام كاف، نتعرض لكل أنواع الضربات العسكرية، أشعر أن الأطفال هيا وعبد الله وليان ومعهم أطفالي الأربعة، قد تتوقف قلوبهم من الخوف في أي لحظة، وأحس أحيانا أنهم جثث حية صغيرة". أما الناجي الرابع، فهو الطفل فؤاد (عامان ونصف)، الذي احتمى رفقة جده بمنزل الحاجة إنعام.
فؤاد تم انتشاله من المنزل المدمر ثم نقل إلى مشفى الشفاء، وسط غزة، لمتابعة حالته، لكن فُقد أثره بين أروقة قسم الطوارئ الذي كان يكتظ بالشهداء والمصابين وذويهم، ولم يعثر عليه حتى الآن. يقول حمودة :"وصلتنا معلومة تفيد بأن الطفل فؤاد على قيد الحياة، وقد اصطحبته إحدى العوائل التي نزحت إلى جنوب غزة، حتى الآن لا نعلم شيئا عنه".
إنها حكايات معاناة لا تصفها الكلمات لكبار اختبروا الموت والفقدان والدمار والنزوح والجوع، وصغار اكتووا بنار اليتم وبتر الأطراف وإجهاض الأحلام في حرب إبادة جماعية مستمرة على مرأى ومسمع من العالم.