مجازر مخيم جباليا| حكاية الناجي الوحيد من عائلة عويضة (16)

25 ديسمبر 2024
الناجي والأسير المحرر محمد عويضة (العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يروي الكاتب قصصاً مؤلمة عن المجازر في قطاع غزة، مسلطاً الضوء على معاناة محمد عويضة الذي فقد عائلته بالكامل بسبب الهجمات الإسرائيلية.
- في نوفمبر 2023، تعرضت عائلة عويضة لقصف مدفعي، مما أجبرهم على اللجوء إلى أقاربهم، لكن هجوماً إسرائيلياً لاحقاً دمر منزلهم، وأسفر عن استشهاد والده وطفليه وشقيقته.
- بعد رحلة علاج واعتقال، فقد محمد زوجته وشقيقه الأصغر في أكتوبر 2024، ويعيش الآن وحيداً في خيمة نزوح، محاطاً بالحزن والقهر.

لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم، ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد مزيد من أرواح الأبرياء.


في صيف 2009، نظّم رجال الحي في بلوك "7 " بمخيم جباليا، رحلة إلى منتجع "النورس" الذي يحتوي على بركة سباحة كبيرة، كان هذا الموعد سنوياً، ينتظره الجميع بفارغ الصبر، فمعظم شباب ورجال الحي يتقنون السباحة، إلا قلّة ومنهم والدي الشهيد خليل أبو الطرابيش.. ومما أذكره في ذلك اليوم أن أحدهم مازحه برميه في البركة التي كان عمقها أربعة أمتار تقريباً، ودون تردد، قفز صديقي وجاري محمد عويضة (35 عاماً)، وتبعته بسرعة، ما زلت أتذكر تلك اللحظة تحت الماء، كان أبي بجسده النحيل يغرق ومحمد يلحق به، ثم قمت بالمساعدة بدفعة قوية بقدمي لجسديهما للخارج.

حين خرج محمد من البركة، كان على رقبته وصدره آثار أصابع والدي الذي كان يتشبث به، فيما كان الأخير ملقى على الأرض يستفرغ من معدته الماء الذي شربه، ببساطة لقد أنقذ صديقي والدي من الموت. محمد هو جار وصديق، تعرض في هذه الإبادة لكل أنواع القهر، إذ دمر الاحتلال منزله وقتل عائلته على دفعات ثم أصيب واعتقل. صديقي الذي يعمل بمركز تجميل أسنان في المخيم والمدافع السابق لنادي شباب جباليا لكرة القدم، متزوج من جيهان (31 عاماً)، ولديه طفلان، معين (خمسة أعوام)، وعماد (عامان)، يعيش مع عائلته المكونة من ثمانية أفراد في منزل بسيط مغطى بالقرميد.

الشهيدة جيهان مع طفليها الشهيدين معين وعماد (العربي الجديد)
الشهيدة جيهان مع طفليها الشهيدين معين وعماد (العربي الجديد)

عصر يوم 7 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2023، أصيبت عائلة عويضة بجروح متفاوتة، إثر قذيفتين من المدفعية الإسرائيلية. جرى تضميد جروح المصابين في مستشفى كمال عدوان، ثم احتمت الأسرة لدى أقارب لهم من عائلة الشيخ، في منطقة يعرف بها مخبز عجور، أي النقطة الفاصلة بين بلوك "6" و بلوك "7" في المخيم.

ظنت عائلة عويضة أنها نجت من الموت، إلا أنه في ليلة 16 نوفمبر 2023، نفذت الطائرات الحربية الإسرائيلية حزاماً نارياً على منطقة مخبز عجور، ودمرت قرابة عشرة منازل، كل منزل يأوي أكثر من 30 شخصاً، من بينها منزل عائلة الشيخ حيث نزحت عائلة عويضة.

الشهيد الأب معين عويضة (العربي الجديد)
الشهيد الأب معين عويضة (العربي الجديد)

أصيب محمد بجروح بليغة في قدميه، فيما استشهد والده معين (60 عاماً)، وطفلاه عماد ومعين، وشقيقته إلهام (33 عاماً) وطفلها محمد، فيما ارتقى معهم سبعة آخرون من عائلة الشيخ. لم يلق الجريح نظرة وداع على عائلته، وتكلف صديقاه نبيل مطر وأحمد حسب الله بدفن طفليه، وقد استشهدا بدورهما أيضاً بعد أسبوع من الواقعة في أماكن متفرقة في المخيم. يقول محمد: "لا أحد يعرف أين قبر أطفالي سوى نبيل وأحمد، وهاهما قد استُشهدا، لذلك لا أعرف كيف سأصل إليه؟!".

بعد أسبوعين من رحلة العلاج بكمال عدوان، اقتحمت قوات الاحتلال المستشفى، وجرى اعتقال محمد لمدة 40 يوماً وهو مثقل بجراحه، بعدها جرى الإفراج عنه وألقاه الجيش في جنوب قطاع غزة. يقول: "رغم الإصابة، فإن الجنود تناوبوا عليّ بالضرب المبرح، حتى إن أحدهم كان يضغط على مكان الجرح، ليستجوبني، كان يسألني هل شاركت في السابع من أكتوبر(..)، تقريباً 40 يوماً مرت عليّ كأنها 40 ألف سنة، لم يراعوا قلبي المجروح ولا جرح أقدامي". فيما بقيت زوجته جيهان في مخيم جباليا وحدها، تتجرع مرارة الفقد على طفليها وبعيدة عن زوجها، بعدما فصل الجيش شمال غزة عن جنوبه.

في الحملة العسكرية الثانية على مخيم جباليا التي كانت في بداية مايو/أيار 2024، ارتقى شقيقه أحمد (29 عاماً)، في قصف من طائرة استطلاع، تاركاً وراءه رضيعاً اسمه جعفر وزوجته إسراء، وهما الآن محاصران وسط الحملة المستمرة على المخيم.

الشهيد إبراهيم عويضة (العربي الجديد)
الشهيد إبراهيم عويضة (العربي الجديد)

في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2024، تلقى محمد صدمة أخرى باستشهاد زوجته، بصاروخ استطلاع حين كانت تساعد في إعداد الطعام مع إحدى الفتيات بالمنزل الذي كانت تحتمي فيه. قال في رثائها: "لا أجد في قواميس اللغة كلمات لأصف زوجتي العطوفة، كانت أمي وأختي وحبيبتي وصديقتي وأم أطفالي، في آخر أيامها كانت حزينة جداً على فراق أطفالنا، وكانت تتمنى اللحاق بهما، وهذا ما حصل، وأنا كذلك أتمنى أن التحق بهم قريباً".

بعدها بثلاثة أسابيع، وتحديداً يوم 28 أكتوبر 2024 استشهد شقيقه الأصغر إبراهيم (19 عاماً) حين كان يحاول إنقاذ عائلة تعرضت لقصف مباشر في حي الفاخورة: "كان إبراهيم مثل النحلة، خفيف الجسد وسريع الحركة، كان لاعباً ماهراً في كرة القدم، يحلم أن يمثل المنتخب الفلسطيني، لكن إسرائيل مزقت جسده وحلمه".

الشهيد أحمد عويضة (العربي الجديد)
الشهيد أحمد عويضة (العربي الجديد)

لقد قتلت إسرائيل جميع أفراد عائلة محمد عويضة ولم يتمكن من إلقاء نظرة الوداع عليهم، وهو الآن يعيش وحده في إحدى خيام النزوح، يغرق في الحزن والقهر. كنت أتمنى أن أكون معه لمحاولة انتشاله من حالته ومدّ يدي له، كما فعل حين أنقذ والدي من الغرق في يوم لا ينسى.

المساهمون