تتبدّل المشاهد في قطاع غزة بسرعة. هناك نساء وضعن أطفالهن تحت القصف وعلى مقربة من رائحة الموت التي عبقت في المكان. هؤلاء نسين ألم المخاض وسط آلام الثكالى اللواتي فقدن أبناءهن. وليس غريباً على غزة الصابرة، العصية على الانكسار، أن تزرع الأمل من خلال ولادة أطفال على الرغم من آلة القتل والدمار وسعي الاحتلال الإسرائيلي إلى إبادة القطاع وأهله.
تقول رنا حجاج (35 عاماً)، وهي من حي الشجاعية شرق مدينة غزة، إنها وضعت مولودتها ميرفت بعد يومين من بدء الحرب على غزة، قبل أن تنزح مع أطفالها الأربعة وزوجها إلى مدارس الشاطئ ثم إلى مدارس مخيم النصيرات وسط قطاع غزة. تتحدث لـ "العربي الجديد" عن مشاعر قاسية عاشتها لحظة خروجها إلى الشارع متوجهة إلى المستشفى وهي تشاهد أشلاء متناثرة هنا وهناك، ناهيك عن الجرحى والمصابين.
تقول: "الأصعب كان اضطراري إلى ترك أهلي من دون أن أعرف شيئاً عنهم. نحنا هنا منقطعون عن الجميع. لا نعلم ما يدور حولنا". وتوضح: "وضعت طفلتي التي لطالما انتظرتها بعد إنجابي أربعة ذكور. ولطالما حلمت أن أحتفي بقدومها كونها الأنثى الوحيدة. لكن الاحتلال يقتل كل شيء ويتعمد قتل الفرحة في نفوسنا من خلال استمراره بالتدمير والقتل".
وتقول: "نحن هنا في مركز إيواء حيث لا مياه ولا كهرباء ولا طعام. أصبحنا بلا مأوى، تشردنا وتركنا كل ما نملك خشية على أرواحنا وأرواح أبنائنا فلذات قلوبنا"، مشيرةً إلى أنها لم تأكل منذ أيام ومياه الشرب شارفت على النفاد.
تؤكد حجاج أن بعض الأهالي في مخيم النصيرات حاولوا المساعدة وتوفير الطعام الذي نفد بعد يومين، لافتة إلى أنها لم تستطع توفير الحليب الصناعي لرضيعتها في ظل عدم حصولها على الغذاء، وأن طفلتها تعجز عن النوم بسبب الجوع. وتشير إلى أن "مراكز الإيواء مكتظة بالمواطنين، ولا متنفس لهم. حتى الساحة امتلأت بالنازحين وسط سخط من الجميع لعدم تقديم خدمات ومساعدات في ظل ظروف الحرب القاسية". وقد أسمت مولودتها ميرفت تيمناً بأم زوجها التي عانت معها خلال فترة الحمل القاسية والطويلة.
أما المواطنة براء الكفارنة (20 عاماً) من بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، فقد وضعت توأمها يامن ومزيونة مساء السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أي في اليوم الأول لعملية "طوفان الأقصى" بعد إجراء عملية قيصرية ببنج نصفي في مستشفى كمال عدوان. وتؤكد أنها وصلت إلى المستشفى في وضع غير طبيعي أو اعتيادي، وسط انشغال الطواقم الطبية واكتظاظ المستشفى. تقول: "لم يتوفر البنج الكلي لإجراء العملية الجراحية القيصرية، وقد حملت بطفلي بعد إجراء عملية أطفال الأنابيب، ما دفع الأطباء لإجرائها ببنج نصفي. كان المستشفى مليئاً بالشهداء والجرحى".
تتابع: "لطالما حلمت بهذا اليوم الذي سأرى فيه أطفالي بعد رحلة طويلة من العذاب والحرمان وتعب الحمل. خططت كثيراً للاحتفال بمجيئهما إلى الدنيا، لكن الاحتلال حرمنا هذه الفرحة"، مشيرةً إلى أنها كانت تسمع صوت القصف أثناء إجراء الأطباء العملية. تضيف: "خرجت من المستشفى إلى مدرسة أبو زيتون شمال قطاع غزة بعد يوم واحد من الوضع، وقضينا فيه سبعة أيام متواصلة ما بين ألم الولادة وألم قصف الاحتلال لمنزلنا وحارتنا وبلدتنا التي دمرت كل مبانيها فوق رؤوس ساكنيها، وراح فيها مئات الشهداء والجرحى".
وتلفت إلى أن فرحتها بتوأمها قتلت أمام خشيتها على عائلتها وعدم معرفة مصيرها حتى اللحظة، موضحةً أنها نزحت مع زوجها وطفليها إلى مراكز الإيواء بمخيم النصيرات بعد اشتداد الخطر في مناطق الشمال. وتؤكد أنها لم تستطع تنظيف طفليها أو تحميمهما في ظل عدم توفر المياه داخل المدرسة.
تضيف الكفارنة أنها لا تستطيع إشباع رضيعيها بسبب عدم توفر الغذاء الذي يسد جوعها وعدم توفر الحليب الصناعي. "حاولنا الذهاب للصيدلية بحثاً عن الحليب لكن محاولاتنا باءت بالفشل". الكفارنة التي ما زالت تعاني من آلام الولادة وارتفاع في درجة حرارة جسدها، تخشى الإصابة بحمى النفاس، وسط عدم القدرة على التوجه إلى طبيب للمعاينة.
وتناشد الكفارنة جميع دول العالم بالتدخل لوقف آلة القتل، وتوفير الحماية للأطفال الرضع الذين لم تتجاوز أعمارهم أياماً قليلة.
يبقى حلم الكفارنة وحجاج بانتهاء الحرب على غزة وعودتهما مع أطفالهما إلى البيت. فعلى الرغم من القصف والدمار الذي قتل ويحاول أن يقتل الحياة في كل يوم، يبقى الأمل بغد أفضل حقاً طبيعياً لهما ولأطفالهما.