على الواجهة البحرية لكتارا في العاصمة القطرية الدوحة، حي تراثي بحري أقامه مهرجان كتارا الثاني عشر للمحامل التقليدية. والحي يعكس حياة حقيقية لمجتمع بحري يصحو من الفجر للعمل وإنتاج السلع المطلوبة للبحارة، بالإضافة إلى تلبية احتياجات الناس الأخرى براً.
وهذه السلع كانت في القدم جزءاً من النمط الاقتصادي الاجتماعي الضروري، وبات بعضها اليوم تراثاً تحافظ عليه الدول ضمن رموز ثقافتها الشعبية.
"التنّاك"
تأتي سيدتان إلى "التنّاك" وتطلبان قطعة "الدراة"، وهي عبارة عن حاجز بمفصلات تحيط وتدارى على النار. ينخرط محمد العسيف من مدينة القطيف (إحدى مدن المنطقة الشرقية في السعودية) في تجهيزها، وتثبيت المفصّلات بضربات قوية محسوبة بالمطرقة بينما صفيحة التنك مثبتة على السندان.
هذه الحرفة التي يعمل بها العسيف منذ 35 عاماً ورثها عن والده، ومادتها الخام هي التنك، وهو الصفيح المقصدر على سطحه، ويكون جاهزاً على شكل فولاذ رقيق، وله استخدامات كثيرة في المنازل لحفظ السوائل من الماء والزيت وخلافهما، والحبوب والسكر، أو في صناعة صناديق السفر والزواج، والمناقل، والمعادن وغيرها. يقول العسيف لـ"العربي الجديد"، إن هذه الحرفة امتداد للصفارة، وأساس الأخيرة هو النحاس، ومحترفها يسمى الصفّار. ويستخدم الأخير النحاس الخام لصناعة المستلزمات النحاسية أو تبييضها بسبب ما يطرأ عليها من أكسدة ضارة بالإنسان.
تخلى الناس عن سلع النحاس الأغلى سعراً من التنك، وبدأت هذه الحرفة تعتمد على ما هو متوفر من أوعية التنك الخاصة بالزيت والسمن مثلاً، وتعيد تدويرها، وباتت هناك صناعات يدوية جديدة. يعرض العسيف أسطوانة تنك كانت تحفظ فيها الأوراق الهامة، وأخرى لحفظ فناجين القهوة بعد لفها بقطعة قماش حتى لا تتكسر، إذ لم تكن الفناجين متوفرة لدى الجميع كما هي الحال اليوم.
أما الحجامة (أكواب ساخنة توضع على الجلد، تساعد في سحب الألم وزيادة تدفق الدم إلى أجزاء الجسم المختلفة)، التي تمارس اليوم بشروط صحية دقيقة في العيادات، فلم تكن كذلك لدى التنّاك. كانت عبارة عن كوب توضع فيه قطنة وتحرق ويسحب الهواء عبر أنبوبة. وثمة ما يسمى "البروة"، وهي كفكير ذو رأس حاد يغرس في أكياس الرز لأخذ عينة فحص الجودة.
وعند السفر، تصنع حقائب من التنك تتحمل المسافات الطويلة، لكنها ستبدو غريبة إذا شوهدت اليوم في محطة حافلات أو على حزام الأمتعة في أحد المطارات؟ كما أننا نعاين خزنة للنقود ذات قفل من السهل جداً أن تتعرض للسرقة، لكنها ربما كانت كافية في ذلك الوقت لحماية المال.
"التِشبنِج"
تتوفر هذه الحرفة، والتي تسمى أيضاً "التحبيل"، من الحبال، في عدد كبير من الأجنحة. ويحدثنا عنها علي بن حيدر، من الكويت، الذي يعمل في صناعة الصناديق كما كانت في السابق للبحارة والنساء. وكلا المستفيدين من هذه السلعة يستهدفان حفظ مستلزماتهما الخاصة، البحار بما يخصه من أغراض وهدايا يجلبها بعد الرجوع من سفره، والمرأة لأشياء العرس وثيابها التي تؤمن عليها في صندوق يسمى "المبيّت".
وما يفعله هذا الحرفي لا يقتصر على صناعة الصندوق وظيفياً، بل إنه يمنحه شكلاً فنياً، إذ يغزل الحبال على الجوانب فيبدو مطرزاً من كل الجهات. ولمن يمر بالبيت الكويتي يصادف بن حيدر منكباً على حرفته، غير أنه قد يجده في مكان آخر يشدو ويعزف على العود من التراث الغنائي البحري. إنه أحد النهّامين المعروفين في هذا الفن الخاص بالبحارة، ينشدونه على ظهر السفينة.
أثناء التجول في هذا الحي نشاهد صناعات الآلات الإيقاعية من دفوف وطبول الرحماني والمسندو والكاسر والطبلة، سواء في الأجنحة التي تعرضها أو العروض الغنائية وهي تعبر بين الآلاف من المرتادين.
شبكة وديين
على سطح خشبي مدعم في مياه الشاطئ سوق للأكلات والمشروبات الشعبية، وهي لسان بحري لسوق مشابه على اليابسة. وعلى الرمل حرفيون يصلحون شباك الصيد ذات الشقوق مختلفة المقاسات بحسب نوع الأسماك، وهي من خيوط النايلون أو القطن المقوى. وهذه شباك كبيرة. أما التي نعثر عليها لدى علي حسين، من جزيرة دارين السعودية، فتسمى "السالية" وتصلح لصياد واحد. هي شبكة مشكوكة بأثقال حديد تكفي لمساحة الذراعين المفتوحتين حين يقف بها الصياد في الماء سعياً لرزقه.
خلال لقائه "العربي الجديد"، كان حسين يعمل على"الديين"، وهي سلة تشبه سلال النباتات المنزلية التي تعلق في الأسقف. والديين المشغولة بالحبال يعلقها الغواص في رقبته لدى نزوله إلى قاع البحر بحثاً عن المحار، لعله يجد فيها ما يأمله من لؤلؤ.
وإذا شاهدت رجالاً يحفرون على الخشب، فهؤلاء يجهزون قطعاً من خشب النبق، تظهر عليها تشكيلات بحرية من الأشرعة والسمك. وإذا لمحت رجلاً يدور في الحي وعلى كتفه عمود خشبي أفقي في طرفيه وعاءان فهذا هو الكندري، أي السقّاء الذي يوزع ماء الشرب على السكان.
لوحة أسماك مجففة
تظهر أسماك مملحة ومجففة معلقة في الهواء على عواميد مغروسة في الرمل مشدودة بالحبال. ويشرح خلفان عبد الله، من ولاية صحار (شمال عمان)، أن السمك المجفف ذو طعم ألذ من الطازج، مشيراً إلى أن "التجفيف بالشمس والتمليح يجعلان السمك مختلفاً كلياً عن الطازج. هذه رحلة قد تستغرق من أسبوعين إلى شهر بحسب حجم السمكة".
يدفن السمك في الرمل وبينهما حاجزان قماشيان الأول في الأسفل مخرّم حتى تخرج سوائل السمك إلى الأرض والثاني من فوق محكم الإغلاق حتى يمنع الرمل من الوصول إلى السمك. يستغرق الأمر بضعة أيام قبل إخراج السمك وغسله بماء البحر، ثم نشره في الشمس. وبطبيعة الحال، يختلف الأمر مع السمك الصغير كالقاشع (السردين) والعوال، فهذا ينشر مباشرة على سطح نظيف تحت الشمس.
قوارب الشاشة
تدور في البحر قبالة كتارا سفينة من نوع "البدن" وعلى سطحها نوخذة (ربان السفينة)، وحولها قوارب "الشاشة" الصغيرة المصنوعة من السعف والمشدودة بحبال الليف. وفي السوق بين الحرفيين، نقابل خليفة الهنداسي، من سلطنة عمان، الذي يصنع ويبيع نماذج مصغرة من قوارب الشاشة، قائلاً إن هناك ثلاثة أنواع من القوارب: الأول يتسع لأربعة أشخاص، والثاني يتسع لاثنين، والثالث يتسع لصياد واحد مع مجذافين وشراع.
وتُرص كميات هائلة من الأصداف بأحجام مختلفة. وهناك في جنبات عديدة منتجات الخوص، مثل سلال الزبيل (أي القفة)، والمهفّة (المروحة اليدوية)، والسفرة (مفرش الطعام).
وبعد التجول في مسرح مفتوح من التراث البحري لساعات، لا تغيب الحلوى العمانية، إذ يتطلب تحضيرها مغرفة ضخمة تدور في القدر (المرجل)، لتحريك السمن والنشا والسكّرين البني والأبيض والزعفران وماءي الورد الإيراني والجبلي والهيل والمكسرات.