جيهان البكري: سرقوا جُثث أطفالي (12)

21 أكتوبر 2024
من يوميات القصف والجوع والموت والقهر (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)
+ الخط -

هَذِه شهادَاتٌ لِناجِين وناجياتٍ من الحرْب فِي قِطَاع غَزَّة اِلتقيْتُهم فِي البرْزخ. حِكايَاتٌ مَسمُولةٌ بِالْأشْواك تُحَاوِل التَّحْديق فِي الفاجعة، سِلْسلةُ قِصص توْثيقيَّةٍ تَبحَث فِي ثِيمة النُّقْصان. هُنَا بشر فَقدُوا كُلّ شَيْء: عائلاتهم، بُيوتهم، أطْرافهم، أحْشاءهم، قطعًا مِن اللَّحْم اِعْتادتْ أن تَكسُو عِظامَهم، حَوَاسّ زوَّدتْهم بِهَا البيولوجْيَا لِالْتقاط معْلوماتٍ عن العالم الخارجيِّ، وَرقَة تِينٍ توارِي سَوأَة خَطِيئَة لَم يقْترفوهَا، وَلغَة مُتماسكة لَم يُصبْهَا مَا أَصَاب أصْحابهَا مِن تشظٍ وَشَتاتٍ واسْتحالةٍ إِلى أَشلَاء مُتناثرة. قِصص النُّقْصان هَذِه؛ نُقْصان الأجْساد مِن أعْضائهَا، الخريطة مِن تضاريسهَا، التُّرْبة مِن بقْلهَا وقثَّائهَا وزيْتونهَا، البحْر مِن أسْماكه، القصائد مِن وزْنهَا وقافيتهَا، المنْظومة التَّعْليميَّة مِن أساتذتهَا وتلامذتهَا، المشافي مِن حَبَّة دَوَاء، قِصص تُحَاوِل الاكْتمال عَبْر روِي النُّقْصان، صَوْت الضحِية - التِي لَم تَعُد تَملِك غَيْر ذاكرتهَا فِعْلاً لِلْمقاومة - لِجَعل اللغَة البشريَّة الحسِّيَّة قَادِرة على تَجسِيد الألم أو النَّظر إِلَيه، إِنَّها مُحَاولَة لِرؤْية الإبادة مِن وُجهَة نظرٍ خَاصَّةٍ بِلحْظةٍ مُعَينَةٍ تَبحَث فِيمَا حدث لِفلسْطينيِّي غَزَّة بَعْد السَّابع مِن أُكتُوبَر.

هذهِ الشهادات التي تكتُبُها الروائيّةُ سمر يزبك وينشرُها "العربي الجديد" على حلقاتٍ ستصدُرُ لاحِقاً في كتابٍ يحمِلُ اسمَ "ذاكرة النّقصان".

كانت تتكلمُ بهدوء، تعيدُ وتكررُ كلماتِها محاولةً إقناعَ نفسِها بما حصَل. العائدون من الموتِ -ربّما- يعتقدُون أنَّ الحياةَ أكثرُ هشاشةٍ من أن تصدَّق، -ربّما هم أنفسُهم- ما زالوا غيرَ مصدِّقين أنهُم أحياء. كانتْ مجزرةَ عائلةِ البكري كما درجَت الفضائيّاتُ على تسميتِها خبرًا من أخبارِ حربِ الإبادةِ المعلَنةِ على غزَّة، لكنَّ الألمَ المرسومَ على وجوهِ النّاجينَ -على وجهِ جيهان- يبدو كأنَّه يكفي لتكثيفِ كلِّ آلامِ البشريّةِ في قلبِ إنسانٍ واحِد.

الصورة
النظرة والوداع الأخير (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)
الوداع الأخير (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)

قلبِي كانَ متأكدًا أنَّ زوجِي سيأخذُ أطفالَه عندَه

أنا جِيهان البَكْري، كنتُ أمّاً لطفلين حين بَلَغتُ من العُمْرِ ثلاثينَ عامًا، دَرَستُ الأدبَ العربيَّ في غزّة وكنْتُ أسكنُ في خان يُونس. قبل يومين من السابعِ من أكتوبر،َ كُنتُ في المُسْتَشْفى بسببِ آلامٍ شَديدةٍ في البَطْنِ، اكتشفُوا أنَّ لديَّ التِهابًا شديداً في الزائدةِ الدوديّة، لذلك نَقَلني زَوجي إلى المُستَشفى، وهناك أجرَوا لي عملاً جراحيّاً، وبقيتُ لاستكمالِ العلاج.

كان أطفالِي وقتَها عندَ أُختي هَناء في بيتِ أهلي؛ لكنّي عندما بدأَ القَصْفُ خِفْتُ على أطفالي، لذلك لم أنتظرْ انتهاءَ العلاج، فخرجتُ من المُستشفى وأخذتُهم من بيتِ أهلي وعُدْتُ بهم إلى بيتي. تعلمين! الواحدةُ في بيتِها تكون أكثرَ راحةً مع أبنائِها. بَقِيتُ هناك خلالَ الأسبوعِ الأولِ من الحَربِ، لم أَترُكْ بيتي رغمَ اشتِدادِ القَصْفِ ورُغم كلِّ ما كنتُ أُعانيه من ألمٍ. نحن نسكُنُ في مِنْطَقةِ (مَعْن) في مدينة خانِ يُونِسَ. ثمّ كانَ أنْ ازدادَ الوضعُ سوءًا، لم يَحتَمِلْ زَوجِي مشاعرَ الخوفِ الشديد في عيونِ الأطفالِ، كان قلبُه يتقطّع حُزناً عليهم، كنْت أرى ذلكَ في عيونِه، لذلك عندما طلبَ منّي أنْ أعودَ بِهم إلى بيتِ أهلي، وافقتُ فوراً. كان الأطفالُ مَذْعورينَ، كانوا خائفينَ من الدمارِ والضربِ الذي كان يُحِيطُ بنا والمَباني تَتَساقَطُ حولَنا.

في الثاني عشرَ من أُكتوبرَ، سمعْتُ أنّ الإسرائيليّين قَصَفوا حِزامًا ناريًّا حولَ بيتِنا. خِفْتُ كثيراً على زَوجي، ولم يكنْ هناك أيُّ وسيلةٍ للتواصلِ. في الليلِ حاوَلْتُ الاطمئنانَ عليه دُون جدوى، ثمّ عَلِمْتُ أنّه أُصيبَ! لم أكنْ أعرِفُ ما يَحْدُثُ، كانتِ الاتصالاتُ والإنترنتُ مقطوعةً. في البداية، قالوا إنّه مُصَابٌ، ثمّ قالُوا إنَّ حالَتَهُ تَسوءُ، ولم يطل الأمرُ حتّى أخبروني أنَّ زَوجي استُشْهِدَ فوراً، قُتل في القَصْفِ! لم أستوعبِ الأمرَ في البدايةِ! "يعني خَلَصْ! ما عَاد يِرجعْ"؟!؛ أَرْسَلَنا لِيُنْقِذَنا وماتَ عِوَضًا عنَّا! انهَرْتُ تمامًا، كان كلَّ عالَمي! كُنتُ أَشْعُرُ بشيءٍ ما في ذلكَ اليومِ، حتّى قبلَ أن أعرِفَ! كُنتُ أدعو لِزَوجي منذُ الصباحِ لأنَّ إحساسًا غريبًا جعَلَني أَشْعُرُ بموتِهِ! كان قلبي يَغْلي! قلتُ لهم، لقد عرفتُ هذا في قلبي ولم أَتَكلَّمْ! كان استشهادُ زَوجي أولَ كارثةٍ في بيتِنا! بَكَيْناه جميعًا! أمّي وأبي بَكَيَا! كان مَحبوبًا جدًا، كانت أمّي تقولُ إنه ابنٌ لها! لقد مَرِضَتْ بعدَ موتِهِ! زَوجي كان مَدَنيًّا، لا دخلَ له بالسياسةِ، كان إنسانًا استثنائيًّا، مُحبًّا وعَطوفًا. وفي النهاية قُتِل بالقصف مع ابن عمّه جمال أبو النجا، ذَهَبْتُ إلى بيتي لأُوَدِّعَه قبل دَفْنِهِ. وَدَّعْتُهُ؟ نَعَمْ، وَدَّعْتُهُ! ثمّ دَفَنَّاهُ تحتَ القَصْفِ. تعرفين! رغمَ أنَّ الحربَ كانت في بدايتِها لكن لم يكنْ هناكَ فرصةٌ لكثير من البشر لِدَفْنِ مَوْتاهم، كان الإسرائيليّون يَقْصِفُونَ المشيّعين وهمْ في المقبرة فيقتُلون آخرين، يذهب الناس في غزّة لدفن واحدٍ فيدْفِنون أكثرَ وهكذا...

عدْت للبيت رُغم القصفِ الشّديد. كانتْ ذِكْرياتُنا أنا وزَوجي في كلِّ مكانٍ هُناك، بَقِيتُ حتّى العصرِ، وكنتُ أراهُ ماثلًا أمامي في كلِّ زاويةٍ! أراهُ بوضوحٍ! عُدْتُ إلى بيتِ أهلي، لم أحتَمِلِ البقاءَ في البيتِ من دونهِ، رأيتُ مَلابِسَهُ أمامي ولم أحتَمِلْ! الحياةُ لا تُطاقُ من دونهِ! صِرْتُ نازِحةً في بيتِ أهلي، كانت أيامًا صعبةً، خائفةً على أطفالي ولم أُصَدِّقْ بعدُ أنَّ زَوجي مات. شَعَرْتُ بقلبي، قلبِ الأمِّ، أنظرُ إلى أطفالي وأقولُ لمن حولي إنَّ أباهم سيأخذهم لأنه يُحِبُّهم. حاولوا تهدِئَتي ولكنَّ قلبي كان يَخْفِقُ بشدةٍ والذعرُ يَجتاحني، أنظرُ إلى أطفالي بخوفٍ، أنظر إلى كلِّ من حولي بخوفٍ! قلبي كان متأكدا أن زوجي سيأخذ أطفاله عنده.

صلَّيْنا العشاءَ، ونَيّمْنا الأولادَ في بيتِ أهلي، وكانتْ أختي هناءُ بقربي. زَوجُها كان مسافِرًا، وكنّا -الأخواتِ والإخوةَ- جميعًا في بيتِ العائلةِ. أخي الكبيرُ يَسكُنُ في الطابقِ فوقَنا، وفوقَه أخي الثالثُ والرابعُ. زَوجُ هَنَاء مُهاجرٌ في آيسلندا، ولديها ولدٌ وبنتٌ، وهي مُقيمةٌ مع أهلي منذ غيابِ زوجِها، فبقي أولادُها معنا. تلك الليلةَ، كان هناك ثمانيةُ أحفادٍ لأمي، نَيّمْناهم معًا.

آخر شيءٍ أذكره تلك اللحظةَ أنّ أمّي كانتْ تصرُخُ بنا لنبقى معها في الغرفةِ. قُلنا لها أنا وأختي أنّنا نريدُ تهدئةَ الأولادِ، فهم يَضِجُّونَ كثيرًا ولا نريدُ إزعاجَها. ثمّ فجأةً، طِرْتُ في الهواءِ! كان ذلك يومَ الثامن عشر من أكتوبرَ. الأشياءُ الغريبةُ التي تحدثُ للإنسانِ تبدو مثلَ الخيالِ، كلُّ الكلامِ الذي نسمعُهُ عن القصفِ لا يُشْبِهُ أيَّ شيءٍ. كُنا نضُمُّ أطفالَنا الصِّغارَ الأربعةَ إلى أحضانِنا، نُصَلِّي. ثمّ كان أن طِرْتُ خارجَ البيتِ! رُمينا كلّنا خارجاً مثل أكياسٍ من النفايات، ما الذي يعنيه البيتُ إذا كُنّا سنُرمى منه هكذا؟!

الزّنّانةُ إياها

كان الدخانُ أسودَ، والسماءُ حمراءَ، حمراءَ مُلتهبةً! اعتقدتُ أنّي في كابوسٍ وأنّي سأصحو، إذْ لم يمرَّ سوى ثانيةٍ واحدةٍ. كنتُ أُمسكُ جوالي في يدي، هذا ما وعيته! ثانيةً فقط!  ثمّ من بعيدٍ رأيتُ خيالًا أبيضَ، رجلًا! الدنيا ليلٌ، وخيالاتٌ بيضاءُ وحمراءُ! كان الأقاربُ يُنقذونَنا حينها، يحاولون، ولكنّي لم أستوعبْ شيئًا، كنتُ أنادي وأصرخُ، لكنّي كنتُ أصرخُ حقيقةً وأسمعُ صوتي! جاء رجلٌ لا أعرفه - علمتُ لاحقا أنّه كان ابنَ عمِّ أبي- سألني من أنا، كان قد سمعني وهو يبحثُ بين الركامِ، وحاول انتشالي. كنتُ بعيدةً خارجَ مكانِ الانفجارِ، لقد طيَّرني الصاروخُ! ولهذا نَجَوْتُ! لم أكنْ مدفونةً كليًّا تحت الردمِ. لقد اسْتُهدفنا بصاروخينِ؛ الصاروخُ الأولُ طيَّرَنا، والثاني سحبَ الدارَ، شَفَطَ الدارَ! صاروخٌ فَراغيٌّ! نَزَلَتِ الدارُ كلّها بطوابقِها!

لم أكنْ أشعرُ بشيءٍ. لا أشعرُ ولا أرى جيدًا، الغبارُ كثيفٌ، وكان من حولي يُنقذونَ الآخرينَ. كنتُ أراهم كخيالاتٍ ولا يرونني! كنتُ بعيدةً! وعندما صرختُ عرفوا بي، وأنقذوني، وأخذوني إلى المُسْتَشْفى. أجروا لي عمليةً، كان الصبحُ قد جاءَ وصار يوم جديد، وعندما استيقظتُ وفتحتُ عيني، وسألتُ عن أولادي وأهلي، قالوا لي إنَّ أولادي بخيرٍ. طلبتُ أن أراهم، لم أعرفْ أيَّ شيءٍ، كنتُ أتألمُ، وحدسي يُخبرني أنّ شيئًا ما حصل. كان ظهري مكسورًا، ورِجلي ملفوفةٌ ولا أعرفُ أنّها مقطوعةٌ، وبطني مفتوحٌ ورأسي مقطوبٌ بغرزٍ كثيرةٍ. ثمّ جاء أخي لرؤيتي وأخبرني أنَّ أولادي استُشْهِدُوا. سألتُ عن أمّي، قال إنّها ماتت أيضاً، وزوجةَ أخي؟ ردَّ بنفسِ الجّوابِ أنّها ماتت. مات أحدَ عشر فردًا من عائلتي! أمي، وزوجةُ أخي، وأولادُنا الثمانيةُ. كان أخي الكبيرُ مُصابًا أيضًا. أمرٌ لا يُمكنُ تصديقُه، لقد كنّا جميعًا إمّا ميّتين أو مقطّعين، حرفياً أصبحت عائلتي هكذا.

وأثناء كلِّ هذا! دخلتُ غرفةَ العملياتِ لأجل عمليةٍ في ظهري، وجدوا عنديَ كسرٌ في الفقرةِ الخامسةِ. أخي المصابُ الذي بتروا رجلَيْه الاثنينِ، أُصيبَ بتسمُّمٍ من الصواريخِ المسمومةِ! الصواريخُ نفسُها التي قطعَتْ رجلَيْه ولم تقتلْه في تلك اللحظة، قتله سُمُّها فيما بعد! مات فورًا بعد بترِ رجلَيْه، لَحِقَ بأمي وأولادي وزوجي! هكذا اختفَتْ عائلتي وكأنها لم تُوجدْ يومًا! هكذا كانُوا يختفونَ من حولي، ولم أملكْ حتّى الوقتَ لأفكرَ، كنتُ أنا نفسي بين الحياةِ والموتِ، أصحو وأتألمُ، ثمّ أغيبُ عن الوعي!

هَناءُ، أُختي تَبلُغُ من العمرِ سبعةً وعشرين عامًا، أُمٌّ لولدينِ، ماتُوا مع أطفالي. هَناءُ رَبَّتْ أطفالَها وحدها، زَوجُها سافرَ بسببِ الأوضاعِ الاقتصاديةِ والبِطالةِ ليَعمَلَ ويُوفِّرَ لهم الحياةَ الكريمةَ. كانتْ بجانبي أثناءَ الانفجارِ وبَقِيَتْ معي في المستشفى، وفَقَدَتْ طِفْلَيْها. هذه صورتُهم، انظري! هؤلاءِ همْ أبناؤنا الأربعة! هؤلاء هم قبلَ الموتِ، وهنا بعدَ الانفجار! انظري إلى هؤلاءِ الملائكةِ! من يَقتُلُ أطفالًا لم يتجاوزوا عدّةَ سنواتٍ! لقد ماتُوا فورًا، ارتاحُوا من هذا العالمِ القاسي! ابنُ أختي عُمره سنتانِ ونصف، اسمه نبيل، عندما وُلد كان والده مُسافرًا، لكنّه جاء ورآه عندما كان عمره ستّة أشهرٍ، أمّا ابنتُها أسيل فوُلدت في غِيابِه أظنُّه لمْ يرَها على الإطلاق. البِطالةُ المتفاقمةُ في غزّةَ أجبرَت الرجالَ على السّفرِ ليجدوا فُرَصَ عملٍ، لتعيشَ بقيةُ العائلةِ. كان زوج هناء لا يُريدُ تركَهم وحدهم، لكن لم يكنْ من خيارٍ، لقد خاطَرَ بحياته، ذهب عن طريقِ تركيا واليونانِ وعَبرَ البحرَ مثلَ كلِّ اللاجئين. خِفْنا عليه أن يَغْرَقَ، لكنّه نجا، وكنّا ننتظرُ أن تستقرَّ أمورُهُ لتذهبَ أختي وأطفالُها إليه. ولكن حصلَ ما حصلَ في غيابه، وماتَ أطفالُه! بَقِيَتْ أختي وحيدةً، وبَقِيتُ أنا وحيدةً، نَشعُرُ أنّنا سنموتُ معًا أو نَحيا معًا.

ذلك اليومُ المشؤوم لا يغادرُني أبداً، الثّامن عشر من أٌكتوبرَ، لن أنساه طوال حياتي. يوم نَزَلَ الصاروخُ علينا. أذكُرُ أنّني وأختي صلَّينا العشاءَ، كنّا والعائلة كلّها في حالةِ خوفٍ وتوترٍ. نَجتمعُ مع بعضنا، كلُّ الإخوةِ والعائلةِ. أذكُرُ أننا جَهَّزْنا العشاءَ لأطفالِنا، نعم أكلوا! الحمد لله! ماتوا شبعانينَ على الأقل! أكبرُ طفلٍ عمرُه أربعُ سنواتٍ، وآخرُ عمره سنتانِ، وآخرُ سنةٌ ونصفٌ، وآخرُ عمرُه شهورٌ. الأطفالُ عادةً يَلعبون، لكنهم ذلك اليوم لم يَلعَبوا ولم يَضِجُّوا ولم يُصدِروا أيَّ صوتٍ، ناموا مُبكرًا، كانوا مُتعبينَ من الخوفِ لأقصى حدٍّ. كنّا نقضي الوقتَ نُحاول تسليتَهم واللعبَ معهم، لكن كان الخوفُ والقلقُ أكبرَ منّا ومنهم!

ماذا أقولُ لك! أذكُرُ أنّني قلتُ لأختي هَناءُ إنّني رأيتُ طائراتٍ غريبةً تَحومُ حولَ البيتِ، الزّنّانةُ إياها، تَلِفُّ وتدورُ حولَ بيتِنا! فكرتُ أنّنا في خطرٍ، وأنّنا يجبُ أن نخرجَ من هنا! كنّا نَتتبعُ الأخبارَ رغم عدمِ وجودِ النت، نَشحنُ جوالاتِنا قليلًا إذا تَوَافرَت الكهرباءُ لِنَعرفَ خَبَرًا ما، وكانت الأخبارُ تأتي بالمزيدِ من الموتِ والمزيدِ من فَقدِ الناسِ الذين نعرفهم! موتٌ في كلِّ مكانٍ، يموتُ كلُّ من نعرفُهم. قلتُ في نفسي، سوف نموتُ أيضًا، رأيتُ الموتَ أمامي، ولكن لم يكنْ الخيارُ أمامَنا. إلى أينَ سنذهبُ؟ سلّمتُ أمري لله، وقلتُ أموتُ أنا وأطفالي وأبقى معهم، وأَلْحَقُ بزوجي! ثم، نعم! أذكُرُ أنّ الأطفالَ حينها نامُوا، غَرِقوا في النومِ. اطمأنَنَا عليهم. في الغرفةِ الأُخرى التي تحوي نافذةً كبيرةً، قلتُ لأُختي لنَستنشقَ الهواءَ قليلًا! كان للغرفةِ بلكونةٌ، كانت أمي تَتمددُ في الصالونِ لأنّنا اعتقدنا أنّه أكثرُ أمانًا، وكنّا نستطيعُ أن نتحدثَ مع بعضنا. زوجةُ أخي الكبيرِ، حنين، وأخي جهاد، يطلبونَ منّا الانضمامَ إليهم، يقولون... نعم ما زلتُ أذكرُ! يقولون تلك الجملةَ: لماذا كلُّ واحدٍ ينامُ في جهةٍ؟ تعالوا لِتَنضموا إلينا، على الأقل إذا مِتْنا نموتُ معًا؛ كنّا أنا وأختي كلُّ واحدةٍ تُريدُ أن تُبقي أطفالَها في حُضنِها، وهكذا قَرَّرْنا أن ننامَ ونُبقي أطفالَنا في حُضنِنا لنحميَهم، نَلُفُّهم بأجسادِنا. كانوا طَرِيّينَ جِدًّا وصغارًا! فَرَشْنا الغُرفةَ كلّها لنَتَمَدَّدَ، نِمْنا فعلًا، وحنين زوجةُ أخي نامَتْ إلى جانبِنا، أمّي مقابلَنا وهي تُنادِي وتقول أيضًا: لماذا تنامون باكراً؟ حين قالت أمّي ذلك، قلتُ، سوف نُنِيمُ الأطفالَ ونأتي إليكِ.

كانَ الوقتُ يمرُّ ببطءٍ شديدٍ. اتصلَ زوجُ هناءَ الغائبُ. رأى أطفالَهُ على الجوالِ قبلَ موتِهم، ودّعَهم، يا الله! كانَ القصفُ حولَنا، كانَ يسمعُ صوتَ القصفِ على أبنائِهِ من غربتِهِ في أوروبا. أمي تقولُ لنا: تعالوا؛ والأطفالُ يُشيرونَ لأبيهم ولا يريدونَ أن يناموا! ابنُ أختي يقولُ لأبيهِ: بابا وين أنتَ؟ ويُعيدُ السؤالَ! أبوهُ يُجيبُ: أنا في الشغلِ، فسألَهُ: ورجيني، كانَ أبوهُ في الباصِ، فجعلَهُ أبوهُ يراهُ في الباصِ ويبتسمُ: نبيل، ديرْ بالكَ على ماما وانتبهْ لنفسِكَ ولا تُعذّبها، يلّا بوسْها. وصارَ نبيلُ يُقبّلُ أمَّهُ ثمَّ يُقبّلُ أباهُ في شاشةِ الهاتفِ. كانت أختي تُرضعُ ابنتَها، عمرُها سنةٌ! أنا أَسردُ لكَ الأحداثَ بشكلٍ غيرِ متسلسلٍ؟ أعتذرُ! أنا مُشوّشةٌ، نعم، حصلَ هذا قبلَ أن ينامَ الأطفالُ! أقصدُ قبلَ أن يموتوا.

أُختي هناءُ روت لي ما حصلَ بعدَ انفجارِ الصاروخِ. قالتْ إنّها وعتْ فقطْ عندما رأتْ رأسي مشقوقًا، وذكرتْ أنّي كنتُ غائبةً عن الوعيِ، وجسمي كلُّهُ محروقٌ. رغمَ أنّي اعتقدتُ أنّني كنتُ واعيةً، لم أكنْ أُدركُ مدى الإصاباتِ التي تعرضتُ لها. كنتُ أرى وأسمعُ الخيالاتِ التي أخبرتُك عنها، لكنّهم ظنّوا أنّني غبتُ عن الوعيِ، بينما كنتُ أشعرُ بكلِّ شيءٍ. في المستشفى، سمعتُ أخي يقولُ إنّ اللهَ اختارَ أهلَنا وأولادَنا ليأخذَهم إليهِ. كانَ أخي الكبيرُ يقولُ إنّنا سندٌ وعائلةٌ ولنْ يتركنا. كنّا نبكي بلا توقُّفٍ، وهو نفسه الذي تسمّم من الصواريخِ. بعد أن قالَ لنا: نحنُ عائلةٌ وسنبقى معًا، ماتَ بعدها بعشرةِ أيامٍ مسمومًا ومبتورَ الرجلين! كانت العائلةُ تختفي واحدًا تلوَ الآخرِ، كنتُ لا أصدّقُ ما يحدثُ حولي. أين ذهبوا جميعًا؟

الصورة
جثث شهداء في غزة (محمد عابد/ فرانس برس)
وجع لا مثيل له (محمد عابد/ فرانس برس)

دخلوا المشفى دفعة واحدة، خرجوا ميّتين دفعة واحدة

في الأيامِ الثلاثةِ الأولى في المستشفى، كانت رجلي ملفوفةً ولم أعرفْ ما حلَّ بها. لم أعتقدْ أنَّ هناك بترًا، اعتقدتُ أنَّهم فقط يُغيّرونَ الضماداتِ ويُنظّفونَ الجروحَ. لم أشعرْ بألمٍ كبيرٍ لأنَّ جسدي كلَّهُ كانَ مليئًا بالجروحِ والحروقِ. اعتقدتُ أنَّ إصابتي البليغةَ كانت في رأسي المشقوقِ. ثمّ علمتُ أنَّ قدمِي بُترتْ من الكعبِ وتحت. قالوا لي إنَّ الجرحَ تسمَّم، وتحوَّل إلى لونٍ بنفسجيٍّ، وأنَّ التسمّمَ كانَ سينتشرُ في جسدي ويُميتني. كان التسمّمُ بالصواريخِ حالةً شائعةً، وفي المستشفى مع نقصِ الأدويةِ والموادِّ الطبيةِ الأساسيةِ، اضطرَّ الأطباءُ للحفاظِ على حياةِ المرضى باللجوءِ إلى خيارِ الحياةِ أو الموتِ، بعبارة أخرى، خيارُ التّقطيع بديلاً عن الموت. كانت الأجسادُ تتآكلُ، والناسُ ترى بعينِها الدّودَ يلتهمُ أجسادَها. رأيتُ الدّودَ يخرجُ من جروحي، رأيتُ تفسُّخَ جسدي وأنا ما زلتُ على قيدِ الحياةِ. أخي قبلَ موتِهِ كانَ الدودُ يخرجُ من جروحِهِ. كانَ خيارُ البترِ بالنسبةِ للأطباءِ هو فرصتي الوحيدةُ للبقاءِ على قيدِ الحياةِ. الحمدُ لله، لقد عشتُ!
مجزرةُ عائلةِ البكري، هكذا سمّوها! كانوا أطفالًا مثلَ العصافيرِ، ماتوا كلُّهم! هل أُعيدُ كثيرًا؟ اعذريني. لكنّي أُحاولُ تذكّرَ الموتى كلّهم. أختُ زوجي ماتتْ أيضًا؛ كانت نازحةً في مدرسةِ معن، مدرسةٍ مليئةٍ بالنازحينَ، وقُتلتْ بالقصفِ الصاروخيِّ هناك، ومعها أختاها أيضًا، رتيل وترتيل أبو النجا، واحدةٌ أُصيبتْ والثانيةُ ماتتْ. زوجةُ أخي الأخرى الحاملُ كانتْ واحدةً من الناجينَ بأعجوبةٍ، ماتَ ابنُها الأكبرُ واعتقدَ الجميعُ بأنَّها ستموتُ مع جنينِها. وعلى الرغم من إصابتِها بجروحٍ خطيرةٍ وبكسرٍ في رقبتِها وانتزاعِ طحالِها، لكنّها نجتْ وولدتْ بنتًا جميلةً بعدَ ذلك أسمَتها انتصارَ على اسمِ أمّي. نموتُ بأعجوبةٍ ونعيشُ بأعجوبةٍ. عندما استيقظتْ زوجةُ أخي وشاهدتْ ابنتَها قربَها قالتْ: إنّنا لنْ ننتهي، سنعيشُ.

قضيتُ ثلاثةَ أشهرٍ في المستشفى الأوروبي، وأختي بقيتْ معي، وكانَ القصفُ مستمرًا من حولنا. كانوا قد دفنوا أطفالَنا وأهلَنا. المشفى كبقيةِ مشافي قطاع غزة، كان ممتلئًا بالنازحينَ إلى جانبِ الجرحى والأطباء والممرضين. القصفُ لا يتوقفُ والجرحى يصلونَ باستمرار، كان الزمنُ مثلَ الألمِ يُكرِّرُ نفسَهُ هكذا دون توقف! لم يكن واضحًا لي في البدايةِ أننا نتعرضُ لإبادة، كنتُ أعتقد أنها حربٌ ستمرُّ مثلَ كلِّ الحروبِ السابقةِ، سيموتُ بعضُ الناس والباقي يُؤجلونَ إلى حربٍ قادمةٍ، ثم يعودُ الهدوءُ. لكني فيما بعد رأيتُ الجنون، تحوّلَ المشفى إلى مكانٍ مرعبٍ، النازحون فوقَ بعضِهم البعض، القصفُ لا يهدأُ، أنينُ الجرحى يتكرر بلا توقف. كنت أقولُ في نفسي إننا سنموت جميعًا، لن يتركوا واحدًا منا على قيد الحياة. أفظعُ شيءٍ في المشفى كان عدمَ وجودِ المُسكِّنات. تغيّيرُ الجرحِ كان تعذيبًا نفسيًا، والنازحون من حولنا جائعون وينامون في الممرات. المستشفى كان محاطًا بالدّبابات الإسرائيليّة، ولا يوجد ماءٌ في الحمامات. كانت الجثثُ تدخلُ أمامَ أعيننا. جاءتْ امرأةٌ مصابةٌ، قالوا إنّ أهلَها استشهدُوا جميعًا، ووُضِعت معنا في الغرفة، كان ظهرُها مفتوحًا بالكامل، ورأيتُ أحشاءَها. بقيتْ في الغرفة هكذا أمامَنا وأمامَ العالم عشرةَ أيامٍ ثمّ ماتتْ. جوفُها المرئيُّ لا يفارقُ رأسي. رأينا الفظائع، دخلتْ خمسُ حالاتٍ دفعةً واحدةً وخرجوا ميتينَ دفعةً واحدةً. الموتُ كان سهلًا. أشعرُ أنّنا كلُّنا موتى.

تحتَ وابلِ القصفِ كنّا نشعرُ وكأنَّ رؤوسَنا تطيرُ في الهواء، عاجزينَ عن وصفِ الأهوالِ التي شاهدناها، والكلمات تبدو قاصرةً عن التّعبير. الخوفُ كان يُخيمُ علينا كظلالٍ سوداءَ، وأهلُنا ماتوا، ومن بقيَ منهم فهو إمّا مصابٌ أو مفقودٌ بلا أثرٍ. كنتُ أفكرُ في أطفالِنا، أولئك الذين لم نرَهم وصاروا الآن تحت التّراب! رأسي ما يزالُ عالقًا في غزّة، وكأنَّ القصفَ يحدثُ الآن داخله، لا يذهبُ أبدًا، أسمعُه دومًا وأعيشُه باستمرار. أنا وأختي لا نعرفُ الراحةَ، نعيشُ وكأنّنا تحتَ القصفِ الدائمِ، رؤوسُنا مليئةٌ بالضّجيج. أذكرُ عندما كان الزجاجُ يتساقطُ علينا من النوافذِ مع كلِّ قذيفةٍ، وكيف كانت الأرضُ ترتجُّ تحتنا كزلزالٍ مستمرٍ. كلُّ ما حولنا يهتزُّ ويتحرك، والستائرُ تتمزّقُ، والأشياءُ تنقلبُ وكأنَّ العالمَ كلّهُ ينفجرُ من حولنا. كنّا محاطينَ بالموتِ، وكانَ القصفُ لا يتوقفُ لحظةً واحدةً، لم نكنْ نحظى حتّى بفرصةٍ للراحة، بقينا مستيقظينَ نشتاقُ للنومِ ولو لساعةٍ واحدةٍ. لم تكنْ القذائفُ والصواريخُ هي المشكلةَ الوحيدةَ؛ كانت الدّباباتُ تُحاصرُنا، والزّنّاناتُ تملأُ السماءَ، وكنّا ننتظرُ الرصاصَ الذي سيُطلقونه علينا في أيّ لحظٍةٍ. الجثثُ كانت تسبحُ حولَنا، ثمّ جاءوا وأطلقُوا حزامًا ناريًّا حولنا في خانِ يُونس، في منطقةِ الأوروبيّ، حولَ المشفى، عشراتُ الصّواريخ دفعةً واحدةً. لماذا يَقصفون مشفىً؟!

كرسيّ متحركٌ فوق الرمال

ما تبقى من أهلي نزحُوا إلى رفحَ، تحولُوا إلى أهل الخيام، سكنُوا في خيمةٍ، وأنا وأختي في المشفى نفكرُ فيهم وبما حلّ بهم. بعد أن قصفوا حول المشفى بحزامٍ ناريٍّ، خِفنا، كانت الدباباتُ تُحيطُ بنا، وكنّا نسمعُ أخبارَ المجازرِ الأخرى في المَعْمَداني والشفاءِ وناصرَ، كانَ النّازحونَ يأتونَ إلينا ويُخبرونَنا عن المقابرِ الجماعيّة. عرفْنا أنّ هدفَهم هو المشافي، وأنّنا سننتهي في مقبرةٍ جماعيّةٍ. أخبرنا النازحون أنّ بعضَ الجّنود الإسرائيليّين كانوا يدخلُون المشافي ويسرقون أعضاءَ الناسِ، حتّى جُلودهم، قالوا إنَّ هذا حصلَ في مشفى ناصرَ. كانت قصصًا لا يُصدقها عقلٌ! كانوا يقتلونَ بلا هدفٍ، يجمعونَ المرضى مع مرافقيهم ويقتلُونهُم معًا. الناجونَ أخبرونا بكلّ تلك الأمور الفظيعةِ، ونحنُ رأينا من نوافذِ المشفى أحيانًا. كان الجنود الإسرائيليّون يقتلونَ بشكلٍ فرديٍّ أو يجمعونَ الناس ويقتلونهم دفعةً واحدةً. امرأةٌ قالتْ لجنديٍّ إسرائيليٍّ: "ابعدْ عنّي أنا حامل"، فضربَها في بطنِها بالسلاحِ. كلّ الأشخاص الذين كانوا يعتقلونَهم يختفون تماماً!

حصلَ كلُّ هذا، وأنا وأختي في المشفى، مذعورتين كبقيةِ الناسِ، وقلتُ لأختي يجب أن نخرجَ. كلُّ ما حولنا مُدمرٌ، والناسُ من حولنا يتحولون إلى جُثثٍ مُشوّهةٍ بفعلِ الكُوادكابتر. جُثثٌ مرميةٌ في الشوارعِ. كلُّ العباراتِ لا تستطيعُ أن تعبرَ عن الكوارثِ التي عشناها؛ الخوفُ كان يلفّنا كغلافٍ أسودَ كثيف.

كلُّ شيءٍ كان يتداعى من حولنا. كنّا نرى عبر النوافذِ مشاهدَ الموتِ تتكررُ ككابوسٍ لامتناهٍ. كانوا يقتلون الناسَ بأبشع الأساليب، وفي كلّ لحظةٍ كان الرعبُ يطاردنا. أُصبنا بهلعٍ شديد، وعَجزنا عن البقاءِ في المشفى، فقررنا الخروجَ منه، وكان هدفُنا الوحيدُ هو الوصولُ أحياءً إلى خيمةِ أهلنا في رفح.

وصلنا إلى هناكَ، وأرسلَ لنا أخَي سيّارةً تنقلُنا، ونجونا. لكنّ الهروبَ من جحيمٍ إلى جحيمٍ آخرَ لم يكن أقلَ بؤسًا. عشنا في خيمةٍ في منطقة المواصي، لا يوجدُ حماماتٌ، منطقةُ خيمٍ حيث لم تكن هناكَ مرافق صحيّةٌ. الحمامُ كان مشتركًا لأكثرَ من ثلاثمئة شخصٍ، وكانت خيمتُنا التي صَارت سجناً لنا موضوعةً على رمالٍ لا يمكن التّحرك فوقها بكرسيٍّ متحركٍ. كانَت الحياةُ في المخيم كابوسًا مُوازياً، حيث كانت جروحي مُلتهبة، وجسدي يعاني من الألم في الليل من البرد وفي النهار من الشّمس، دون أدوية أو سرير أو طعام كافٍ.

وصلنا في ديسمبر، وبدلاً من أن نرتاحَ، كنّا نَعيشُ في ترقب دائم للموتِ، حيثُ القصف لم يتوقف لحظة. ثلاثةُ شهور قضيناها في انتظارِ مصيرنا، ننتظرُ الموتَ، كنت أقول الشّهادةَ يا الله، خُذني لزوجي وأطفالي، وكانَ الشّكُّ يساورني في نفسي: لماذا بقيتُ على قيدِ الحياةِ؟ رُبّما لحكمة ما جعلني أعودُ إلى خيمة، وربّما للحكمةِ نفسها لم تنزلِ الأمطار ولم نغرق في الخيام، كنّا نعيشُ في العراءِ.

المخيمُ كان يعجُّ بالآلاف، بلا ماءٍ، وبأسعارٍ مثل النّار. كان أخوايَ يسافران إلى مكانٍ بعيدٍ ليحضروا لنا الماءَ، ومع ذلك، لم نكن في مأمنٍ حتّى هُناك، فقد كانوا يقصفون رفحَ أيضًا. في النهاية، قرّرَ أهلُنا أن نتركَ الخيمة في رفح ونعودَ إلى بيتنا المدمّر لنصنعَ خيمتنا فوق رُكامه. كانَ الإسرائيليون في كلّ مكانٍ، يلاحقوننا أينما ذهبنا، ورُغم ذلك، لم يتوقفِ القصف.

لم يتوقفِ الأمرُ عند هذا الحدّ. أخافُ أن أقولَ ذلك! لكنَّ منظرَ الجثّثِ صاَر عاديًا، والأشدُّ فظاعةً كانَ نبشُ قبورِ الموتى. قالَ الناسُ إنَّ الجنودَ الإسرائيلييّنَ نبشوا قُبورَ الناسِ وأخرجُوا جثثَهم، وها هُم المتوحشون نبشُوا قُبورَ أطفالي. هل تصدقينَ ذلك؟ الحمدُ لله أنُّهم تركُوا قبَر زوجِي كما هو، ولكنّهم لم يرحمُوا قبورَ أطفالي. قتلوهم، ولم يتركوهم بسلامٍ حتّى بعدَ موتِهم! كيفَ يُفكرون؟ ماذا يريدونَ من جثثِ أطفالٍ صغار؟ ماذا سيفعلون بأجسادِهم بعد أن قتلوهم!

أتصدقينَ! لو سمعتُ هذه القصّةَ لمَا صدّقتُ، لكنّها حصلَت معي، لقد سرقوا جُثث أطفالي، كيفَ يُمكنني أن أنامَ وعيوني مليئةٌ بالأسئلةِ: أينَ رُفاتُ أطفالي؟ لماذا سرقُوا جُثّثَهم بعد أن قتلوهم؟ كيفَ سيهدأُ بالي وأنا لا أعرف أينَ هم؟ أقضي ساعاتِ الليلِ أتساءلُ عن مصيرِهم، وينهشُني السؤالُ من الداخل: أينَ أطفالِي؟ أينَ رفاُتهم الآن؟