ينظر كل من يعيش في تركيا أو يراقب نهضتها وتحدياتها، بتفاؤل وأمل كبيرين بأن عام 2023 الذي يترافق مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التي أعلنها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923، سيشهد تأسيس الجمهورية الثانية التي ستكون مختلفة بالكامل عن الجمهورية الأولى التي يرى بعضهم أنها أعلنت تحت ضغوط الأمر الواقع.
الحلم الأكبر المنتظر عام 2023 هو دخول تركيا نادي الدول العشر الكبار، بعدما دخلت مجموعة الدول العشرين وحضرت للمرة الأولى قمة "المالية والأسواق والاقتصاد العالمي" في واشنطن عام 2008. وتحاول تركيا من خلال مشاريعها، تحقيق إنجازات كبيرة على طريق حلمها المنشود سواء على صعيد أرقام الناتج الإجمالي أو عائدات السياحة والتصدير، أو حتى تدشين منشآت لا سابق لها تعتبر الأهم في العالم، وبينها أنفاق "أوراسيا" التي تربط الشطرين الآسيوي والأوروبي لمدينة إسطنبول ببعضهما تحت قاع مضيق البوسفور، أو ممرات مائية مثل قناة إسطنبول، أو جسور مثل جناق قلعة 1915 الذي يخلّد ذكرى المعركة الشهيرة خلال الحرب العالمية الأولى.
على سبيل الدعابة، سألت "العربي الجديد" مدير مركز الأبحاث الاستراتيجية في إسطنبول، محمد كامل ديميريل، عن احتمال اختصار متر واحد من المسافة بين البرجين اللذين سيربطان جسر جناق قلعة 1915 بطول 2023 متراً، لأن المشروع سيدشن عام 2022، فرد ضاحكاً: "المسافة بين الأبراج مدروسة بدقة لتخليد ذكرى مئوية تأسيس الجمهورية. وكان من المتوقع أن يفتتح الجسر عام 2023، بحسب العقد المبرم مع الشركة الكورية المنفذة، لكنّ سرعة العمل على مدار الساعة ستسمح بافتتاحه على الأرجح في مارس/ آذار 2022، خلال مراسم الاحتفال بذكرى معركة جناق قلعة".
المعركة قبل الجسر
يتوقف ديميريل عند أهمية المعركة قبل أهمية الجسر، ويقول: "لم تحاول تركيا دخول معركة جناق قلعة، لكن الاتفاق بين فرنسا وبريطانيا للاستيلاء على إسطنبول جعل خوضها أمراً واقعاً، علماً أن بريطانيا حينها نظرت إلى السيطرة على المضائق باعتبارها لقمة سائغة، خصوصاً بعدما أضعفت حرب البلقان القوات التركية. ودفع ذلك السفن الإنكليزية والفرنسية إلى شن هجوم واسع بلغ ذروته في 18 مارس/ آذار 1915. لكنه فشل، وأجبر الجيش التركي بعد المعركة قوات التحالف على الخروج من شبه جزيرة غاليبولي نهاية عام 1915. واليوم يخلّد الأتراك اسم محمد علي الذي لعب دوراً في النصر، علماً أن مؤسس الجمهورية أتاتورك انضم إلى القوات التي خاضت المعركة برتبة نقيب".
وتشير الأرقام إلى مقتل 56 ألف جندي تركي في المعركة، و21 ألفاً آخرين بعد نقلهم إلى المستشفيات، وفقدان 11 ألفاً وجرح 97 ألفاً، وبقاء 64 ألفاً في حال المرض بعد الحرب، ما يعني أن أضرار المعركة شملت 250 ألف جندي من الأتراك، بينما سقط 55 ألف جندي من قوات التحالف.
خلال 6 دقائق
وفي شأن مشروع جسر جناق قلعة 1915 المرتقب، يوضح ديميريل أنه سيكون الأطول من نوعه في العالم، وسيتخطى جسر "أكاشي كايكو" في اليابان الذي يحمل هذا اللقب حالياً بطول 1991متراً. وهو سيربط بين ضفتي بحر مرمرة من منطقة شكركايا بقضاء لاباسكي في الشطر الآسيوي لإسطنبول، ومنطقة سوتلوجا بقضاء غاليبولي في الشطر الأوروبي. وسيرتكز الجسر على قاعدتين بطول 333 متراً في كل ضفة، بينما يبلغ ارتفاع أبراجه 318 متراً، أي أعلى من ارتفاع برج إيفل البالغ 300 متر، في حين تمتد المسافة بين قاعدتيه 2023 متراً.
وعن سرعة تنفيذ الجسر وتوقعات افتتاحه قبل عام من الموعد المحدد، يشير ديميريل إلى أن "الاهتمام الحكومي بإنجازه تمهيداً للانتقال إلى مشاريع عملاقة أخرى، سرّع أعماله القائمة على مدار الساعة، والتي ينفذها حوالى 5 آلاف عامل بينهم 649 مهندساً، وتستخدم فيها 809 عربات للمعدات الثقيلة". وسيقلص جسر جناق قلعة 1915 فترة الانتقال بين الضفتين إلى ست دقائق بالسيارة بدلاً من ساعة ونصف الساعة يستغرقها عبور السفن حالياً.
وكان وزير النقل والبنى التحتية عادل قرة إسماعيل أوغلو، قد أكد أخيراً أنّ جسر جناق قلعة 1915 اكتمل بنسبة كبيرة بعد تركيب كتل سطحه، في حين لم يبقَ إلا الكتل الخاصة بالأجزاء القريبة من الأبراج. وقال: "سنواصل بذل الجهود لإنجاز دخول الجسر الخدمة في 18 مارس/ آذار 2022. وعند اكتمال المشروع سيبلغ إجمالي التوفير السنوي 737 مليون ليرة تركية (85 مليون دولار)".
ويعتبر جسر جناق قلعة 1915 شمال غربي تركيا الذي وضع حجره الأساس في 18 مارس/ آذار 2017 وتبلغ كلفته أكثر من 10 مليارات ليرة تركية (1.2 مليار دولار)، أهم أقسام مشروع الطريق السريع الذي يربط بين ولايات تكير داغ وجناق قلعة وباليكسير، والذي يبلغ طوله 352 كيلومتراً، ويضم 31 جسراً و30 تقاطعاً للجسور و143 ممراً علوياً وسفلياً و5 أنفاق.
الحزب الحاكم ومشاريع النقل
وتهتم تركيا منذ أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 بمشاريع النقل والبنى التحتية، باعتبارها ذات ميزات اجتماعية واقتصادية بالنسبة إلى السكان والسياح والعابرين. ويواصل الحزب العمل على هذه المشاريع المهمة لمسار إنجازاته في السلطة من خلال رفع شعار "خفض التكاليف والسرعة والأمان" علماً أنّ عدد مشاريع الأنفاق والجسور في البلاد لم يتجاوز 50 عام 2003، في حين بلغ 188 اليوم، وأضخمها نفق "أوراسيا" الذي دخل الخدمة عام 2016. أما الجسور فيّعد أهمها البوسفور الثالث الذي يحمل اسم "ياووز سليم" الذي دشن في عام 2016 أيضاً.
ويبقى مشروع قناة إسطنبول الممتد بين بحر مرمرة والبحر الأسود في موازاة البوسفور، والذي وضع الرئيس رجب طيب أردوغان حجره الأساس مؤخراً، الأضخم المنتظر بكلفة تزيد على 75 مليار ليرة تركية (7.8 مليارات دولار)، علماً أنّ أردوغان يعتبر هذا الجسر حلمه منذ كان رئيساً لبلدية إسطنبول في تسعينيات القرن العشرين.