في أواخر عام 2014، خرج إبراهيم علي (اسم مستعار)، وهو شاب مصري في منتصف العشرينيات من العمر، من السجن، بعدما قضى فيه أشهراً عدة، بعد اعتقاله وعشرات آخرين من محيط مسجد الفتح في منطقة رمسيس وسط القاهرة.
وبمجرد معرفة رفاقه وأصدقائه بخروجه من السجن، استقبلوه أمام منزله في حي مدينة نصر شرقي القاهرة، بالهتافات والأغنيات الحماسية. كانت الساعة قد اقتربت من منتصف الليل. لم يكترث الأصدقاء للوقت، واستمروا في الاحتفال بخروج صديقهم الذي حملوه على أكتافهم. وكأن هذه اللحظات اقتطعت من ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011. لكن يومها ناداهم أحد من الطابق الثاني في المبنى، ينهرهم ويطالبهم بالصمت والرحيل.
هو صوت عمّ علي، الذي يقطن في الطابق الثاني في مبنى عائلة والده. حاول والد علي المواءمة بين فرحته العارمة بخروج ابنه من السجن، وبين الاستماع لنداء شقيقه الأكبر، فطلب من الأصدقاء برفق إنهاء الاحتفال بالخارج واستكماله داخل غرفة علي في بيته.
عائلة علي لوالده منقسمة بين مؤيّد ومعارض للنظام المصري الحالي. عمّه الذي نهره، هو وأصدقاؤه، مؤيّد بشدة للنظام. يشارك في الاستحقاقات الانتخابية على الرغم من كبر سنه ووهن حركته. بينما علي وأسرته الصغيرة معارضون بشدة للنظام. وعلى الرغم من عدم انخراطه في أي عمل سياسي سابق سوى مشاركته في الثورة، إلا أن غضبه من سفك الدماء في مذبحة رابعة العدوية، دفعه للخروج في التظاهرات التي انطلقت نحو مسجد الفتح في الأيام التالية مباشرة لفض الاعتصام، حيث ألقي القبض عليه.
عائلة علي هي مثالٌ لحال المجتمع المصري، المنقسم بين فريق يسعى للحرية، وآخر بيحث عن الأمن والاستقرار، وإن على حساب فئة من الشعب.
حالة الانقسام هذه كان قد تحدث عنها محمد البرادعي، نائب رئيس الجمهورية للشؤون الخارجية عام 2014، خلال إعلانه استقالته. وقال: "كان المأمول أن تفضي انتفاضة الشعب الكبرى في 30 يونيو/ حزيران إلى وضع حد لهذه الأوضاع، ووضع البلاد على المسار الطبيعي نحو تحقيق مبادئ الثورة، وهذا ما دعاني لقبول دعوة القوى الوطنية للمشاركة في الحكم. إلا أن الأمور سارت في اتجاه مخالف، ووصلنا إلى حالة من الاستقطاب أشد قسوة، وحالة من الانقسام أكثر خطورة، وأصبح النسيج المجتمعي مهددا بالتمزق لأن العنف لا يولد إلا العنف".
غذّى النظام المصري الحالي منذ ذلك الوقت، حالة الانقسام المجتمعي، واختار مواقيت معينة تزامنت مع أحداث عنفية وإرهابية، لتعميق فكرة الاستقرار والأمن في مقابل الفوضى. من هنا، لعب النظام المصري على مشاعر الأقباط في مصر، بعد أحداث حرق عدد من الكنائس في أعقاب مذبحة رابعة العدوية. ولعب أيضاً على إخفاء شبه جزيرة سيناء من خارطة التغطية الإعلامية بشكل تام، لتبقى الرواية الأمنية وحيدة يتم تصديرها للرأي العام. كما لعب النظام على شيطنة المعارضة. وكانت معادلة "الاستقرار أو الفوضى" هي حجته الدائمة لقمع المعارضين وإغلاق أي أفق سياسي بشكل تام، من خلال استقطاب أحزاب سياسية لصالحه، وتهميش أحزاب أخرى من خلال اعتقال قياداتها، كما حدث مع أحزاب الوسط ومصر القوية والتحالف الشعبي الاشتراكي، والكرامة والعيش والحرية.
كما قضى بشكل شبه تام على الحركات السياسية التي حاولت أن تشق طريقاً وسطاً بين كل هذا الاستقطاب السياسي الحاد، فوأد حركة شباب 6 إبريل/ نيسان، ومع حركة أحرار، وكانت حركة شبابية بامتياز حاولت خلق فرصة لنفسها وسط كل هذا الضجيج السياسي. وكذلك الحال مع حركة طريق الثورة التي دشنها عدد من المثقفين والسياسيين والاقتصاديين لخلق مجال ثالث لا مع النظام ولا مع جماعة الإخوان المسلمين.
ومع وأد كل هذه المبادرات التي حاولت سلك طريق وسط بين هذا الاستقطاب السياسي المشتعل منذ سنوات، حافظ النظام المصري على بقاء حالة الانقسام المجتمعي على أشدها، بل عاد لتأجيجها بالدراما ووسائل الإعلام بعدما أحكم سيطرته التامة عليها.
كان الانقسام المجتمعي هو الراعي الرسمي لمسلسل "الاختيار 2" الذي عرض خلال شهر رمضان الماضي. وتزامن تنفيذ حكم الإعدام بحق 17 متهماً في قضية رقم 12749 لعام 2013 جنايات الجيزة، والمعروفة إعلامياً بقضية "اقتحام قسم شرطة كرداسة"، بعد ساعات من عرض الحلقة التي تضمنت بعض المشاهد عن هذا الحدث من وجهة نظر النظام. ونُفّذ حكم الإعدام خلال شهر رمضان، على الرغم من أن القانون المصري يمنع تنفيذ أحكام الإعدام في المناسبات الدينية.
يشار إلى أن مسلسل "الاختيار 2" هو من إنتاج شركة "سينرجي" للإنتاج الفني، والتي يملكها المنتج تامر مرسي، وهو رئيس مجموعة إعلام المصريين والعضو المنتدب لمجموعة إعلام المصريين. تناول المسلسل وجهة النظر الحكومية حيال الأحداث السياسية التي شهدتها البلاد منذ الانقلاب العسكري، مروراً بمذبحتي رابعة العدوية والنهضة، وصولاً إلى الفترة الرئاسية الثانية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ما يحصل في مصر يؤكّد ما توصلت إليه سابقاً دراسات النظم المقارنة لتفسير وجود أو غياب الديمقراطية في الدول المختلفة، والتي تبيّن مدى تأثير درجة الانقسام المجتمعي بأبعاده المختلفة، العرقية واللغوية والدينية، وطبيعة الثقافة السياسية للمواطنين، وما إذا کانت الدولة قد تعرضت لتجربة استعمارية غربية أم لا.
وتفيد دراسة بعنوان "الديمقراطية في الدول النامية"، صادرة عن مجلة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 2019، بوجود دليل يؤيد صحة متغير الثقافة السياسية ليصبح التفسير الأبرز لبناء النظام الديمقراطي في الدول النامية، بالإضافة إلى المتغير الاقتصادي. كما توصلت الدراسة نفسها إلى أن فکرة التجانس المجتمعي بأبعاده المختلفة إثنياً أو دينیاً أو طائفیاً يؤثر إيجاباً على إمكانية بناء النظام الدیمقراطي، بالإضافة إلى العامل المتعلق بثقافة الشعوب ذاتها ومدى إيمانها بقیم الدیمقراطیة کالتسامح ونبذ التعصب والثقة في الآخر والإيمان بأفضلية الدیمقراطیة على ما سواها من أنظمة الحکم. ویضاف عامل ثالث يرتبط بثقافة النخب السیاسية وانفتاحها الفكري وتشربها هی الأخرى تسوية نزاعاتها سلمياً، واستعدادها للتنازل وقبولها بالحلول الوسطى.