شهدت الصين خلال الأشهر الأخيرة نوعاً جديداً من نمط الحياة خارج إطار العمل تمثل في عودة عشرات آلاف الشبان والشابات إلى كنف الأسرة، في ظل الضغوط الاقتصادية وارتفاع نسبة البطالة التي بلغت 20 في المائة بحسب المكتب الوطني للإحصاء. ويقول كثير من الشباب إنهم بلا عمل، ويؤدون بدلاً من ذلك أعمالاً منزلية او يعتنون بآبائهم وأمهاتهم في مقابل الحصول على سكن مجاني في بيوت عائلاتهم، وتوفير طعام وشراب وقليل من العائدات المادية.
وأظهرت مقاطع فيديو ينشرها مؤثرون ترف العيش في كنف العائلة، مثل الصحو في وقت متأخر، وتناول وجبات طعام منزلية، وإعداد شاي الظهيرة، واصطحاب الآباء إلى الحدائق العامة، ما لفت أنظار متابعين يعملون بدوامات رسمية في مؤسسات خاصة وحكومية.
وشارك نشطاء هذه الفيديوهات مرفقة بعبارات تضمنت نوعاً من الحسد. كتب أحدهم: "إنهم موظفون بدوام كامل يشمل السكن والمأكل تحت سقف الأسرة، إنها متعة حقيقية"، بينما أبدى آخر استعداده لترك وظيفته للعيش مع والديه، لولا أنهما انفصلا منذ عقد من الزمن.
أمضت شياو تشين (28 سنة) نحو ست سنوات بعيدة عن والديها بسبب دراستها الجامعية خارج البلاد، وحين عادت قبل عامين اصطدمت بواقع التنافس الشديد في سوق العمل، وتضاؤل فرص الحصول على وظيفة، خصوصاً بعدما باتت الشهادات الجامعية الأجنبية لا تجلب امتيازات في الصين التي شهدت ارتفاع مستوى تعليمها الأكاديمي.
تقول شياو لـ"العربي الجديد": "بعدما فقدت الأمل في العثور على وظيفة مناسبة في العاصمة بكين قررت العودة إلى بيت العائلة بمقاطعة قوانغ شي (جنوب)، وتزامن ذلك مع تردي الحالة الصحية لوالدتي. أعتبر نفسي اليوم خادمة عند والديّ، وهذا واجبي تجاههما بعدما تحملا أعباء دراستي وبعدي عنهما طوال سنوات". وعن المهمات التي تنفذها، توضح أنها تطهو الوجبات يومياً، وتغسل الثياب وأطباق الطعام وتنظف المنزل، وتساعد والدها في التنزه كونه يعاني من صعوبة في السير. وتشير إلى أنها تعتمد في تغطية التكاليف على المرتب التقاعدي لوالدها، وأن خيار التفرغ لرعاية والديها أهم من العثور على وظيفة في مكان بعيد عنهما.
من جهته، يقول جاو جين، وهو شاب يعتني بوالده المقعد في مقاطعة شاندونغ (شرق) لـ"العربي الجديد": "عملت في مدينة شنغهاي قبل عامين، وكنت أتكفل بمرتب مدبرة منزل ظلت تعتني بوالدي لثلاث سنوات، لكنني فقدت عملي مثل عشرات الآلاف أثناء تفشي كورونا في المدينة، وحاولت جاهداً العثور على وظيفة أخرى من دون أن أوفق، وحاولت البحث عن وظيفة في مدينة أخرى قبل العودة إلى بيت العائلة، لكن والدي ألح علي أن أعود، وعرض علي جزءاً من مرتبه لقاء الاعتناء به والبقاء قربه، فقررت العودة لرعاية أبي بنفسي، بعدما بت غير قادر على دفع مرتب المدبرة. أقوم الآن ببعض الأعمال البسيطة على جهاز الكومبيوتر، ما يوفر لي عائداً مادياً بسيطاً، لكنني أعتمد أساساً على المرتب التقاعدي لوالدي".
ويقول الباحث في مركز لويانغ للدراسات الاجتماعية، جياو ون، لـ "العربي الجديد": "إن ظاهرة عودة الشباب إلى كنف الأسرة غير صحية، لأن الدوافع واضحة، وتتركز حول صعوبة العثور على وظائف، وتحقيق استقلال مادي. لا تخطط معظم الأسر الريفية لاستقدام مدبرة منزل بسبب تكلفتها الباهظة (بين 1000 و1500 دولار شهرياً). الشباب يستخدمون رعاية الآباء كغطاء للتستر على فشلهم في الحصول على عمل، وتبرير الاعتماد على الأسرة في تأمين سكن وطعام. لكن الظاهرة تظل مؤقتة لأنها تعبر عن مرحلة يشهد فيها سوق العمل أزمات خانقة بسبب تكدّس الخريجين، إذ تخرّج أكثر من 10 ملايين في الصين خلال العام الماضي".
ويضيف جياو ون: "قد تكون هناك حاجة ملحة لحل أزمة الرعاية، لكن التعاقد الضمني بين الآباء والأبناء على توفير بدائل عن الوظيفة مقابل رعاية الأسرة يعبر أيضاً عن أزمة خطيرة تتمثل في تفكك النسيج الاجتماعي. قضى نمط الحياة الصناعية على أواصر الترابط والتواصل بين الأسر، وعزز الفجوة بين الأجيال، لذا بتنا نشهد تباهي شبان بتقديم خدمات لآبائهم مقابل أجور مادية، ولا يترددون في تحويل ذلك إلى مادة للتداول والتفاعل بين الشباب على الشبكات الإلكترونية من أجل لفت أنظار من يبحثون عن راحة مؤقتة في مشوارهم مع الحياة".
ولا تزال أزمة رعاية المسنين إحدى أكبر المشكلات التي تواجهها السلطات الصينية خلال السنوات الأخيرة، في ظل ارتفاع معدلات الشيخوخة في البلاد، وعزوف الشباب عن الزواج والإنجاب، إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة ونزوح اليد العاملة من الريف إلى المناطق الحضرية.