شهدت سياسات تنظيم الأسرة في الصين، خلال العقد الأخير، تحولات كبيرة، من تقييد المواليد لعقود وصولاً إلى حث الأزواج على الإنجاب خلال السنوات الأخيرة، مع تخفيف "سياسة الطفل الواحد" في عام 2015، حتى سُمح في عام 2021 بإنجاب ما يصل إلى ثلاثة أطفال.
وقدّر مسؤولو تنظيم الأسرة أن السياسات الجديدة ستزيد عدد المواليد سنوياً إلى نحو 20 مليوناً. لكن العدد لم يتجاوز 9 ملايين في عام 2022، وهو أدنى مستوى إنجاب منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949. ما دعا الرئيس شي جين بينغ إلى إعلان أن بلاده ستنشئ نظاماً خاصاً لزيادة معدلات المواليد ضمن استراتيجية وطنية للاستجابة لشيخوخة السكان.
وبقدر ما كان يُنظر إلى الزيادة السكانية على أنها مضرة بالتنمية الاقتصادية من قبل مهندسي سياسة الطفل الواحد، فإن الخبراء يقولون إن الاستراتيجيات الجديدة مدفوعة بمخاوف من أن يؤدي نقص السكان إلى تفاقم أعباء الرعاية، والتسبب في أزمة اقتصادية مع تقلص القوى العاملة.
وتبحث السلطات عن طرق لزيادة معدل المواليد الذي يمثل تحدياً حقيقياً، فرغم تحسين شروط الإجازة للآباء، وتوفير مكافآت نقدية للأطفال حديثي الولادة، والسماح للفتيات العازبات بإجراء عمليات التلقيح الصناعي من دون عقوبة، فإن العزوف عن الإنجاب لا يزال سمة المجتمع الصيني.
ويُنظر إلى تطوير تقنيات إنجاب مساعدة، وتعزيز بنوك الحيوانات المنوية، والتخصيب الاصطناعي، باعتبارها جزءا من الحلول المقترحة لزيادة معدلات الخصوبة، إذ شهدت البلاد خلال السنوات الخمس الماضية بناء مزيد من عيادات التلقيح، وتزامن ذلك مع حث مسؤولين في بعض المدن والمقاطعات الحكومة على دعم علاجات الخصوبة، إذ تصل كلفة عملية التخصيب الاصطناعي إلى ما يقارب عشرة آلاف دولار. وبحلول عام 2019، كان هناك أكثر من خمسمائة مركز تلقيح اصطناعي، ونحو 30 بنكاً للحيوانات المنوية في البلاد.
يقول الباحث في مجال الخصوبة لويان تشين، لـ "العربي الجديد"، إن "الصين تعاني أصلاً من قلة مانحي الحيوانات المنوية بسبب وجود نحو مليوني رجل يعانون من مشاكل في إنتاج النطف، ما يجعلهم غير قادرين على إنتاج حيوانات منوية. وحسب اللوائح الصحية المعمول بها في البلاد، يسمح لخمسة نساء كحد أقصى بإنجاز ولادة مع متبرع بالحيوانات المنوية، مقارنة بما يتراوح بين 10 و30 في معظم دول العالم، وهذا يتطلب من بنوك الحيوانات المنوية الصينية استقبال متبرعين جدد باستمرار لسد الفجوة الكبيرة بين العرض والطلب، في حين يعزف العديد من الشباب عن التبرع بالرغم من الإغراءات الحكومية التي تمنح لكل متبرع ألف دولار".
ويرجع تشين عزوف الشباب إلى ثقافة مجتمعية سائدة تنظر إلى قطرات المني التي تقذف خارج الرحم على أنها توازي عشر قطرات من الدم. ما يجعل عمل بنوك الحيوانات المنوية صعباً. ويلفت إلى أن "قلة من المتبرعين المحتملين قادرة على إنتاج حيوانات منوية ذات جودة عالية تضمن معدلات حمل أفضل، ويعزى ذلك إلى التلوث، ونمط الحياة الصناعية، وحسب السجلات الصحية، فإن 25 في المائة فقط من المانحين مؤهلون لإنتاج حيوانات منوية ذات جودة عالية، وهو أمر ينذر بحدوث أزمة إنجاب على المدى المتوسط، كما قد يتسبب في خلل كبير في عمل بنوك الحيوانات المنوية في المستقبل القريب".
وتؤكد أستاذة العلوم الاجتماعية في جامعة كوانجو، لي شونغ، لـ"العربي الجديد"، أن "التدابير التي اتخذتها السلطات الصينية لحل أزمة الخصوبة من شأنها أن تحدث تغييراً في المجتمع، وتصوّب النظر تجاه النساء العازبات اللواتي يفكرن في الإنجاب خارج مؤسسة الزواج. حتى وقت قريب، كان القانون الصيني يجرّم الحمل خارج إطار الزواج، وكذلك تجميد العازبات البويضات، كما كان يُنظر إلى المتبرعين بحيواناتهم المنوية للبنوك الخاصة على أنهم يبيعون دمهم، وليسوا أهلاً للثقة، بينما باتت السلطات تتيح للنساء العازبات إجراء عمليات التخصيب الاصطناعي، وتشجع الشباب، وخاصة طلاب الجامعات، على التبرع لبنوك الحيوانات المنوية، رغم أن الأمر كان يقتصر سابقاً على المتزوجين".
وترى لي شونغ أن "الإصلاحات الجديدة ضرورية لحل أزمة الخصوبة، لكنها يجب أن تقترن بحوافز مجدية وفعالة، مثل ضمان تعويض إجازة الأمومة بشكل صحيح، والقضاء على التمييز بين الجنسين في سوق العمل، وإنهاء ثقافة ساعات العمل الطويلة، وجعل رعاية الأطفال وتعليمهم وعلاجهم في متناول جميع طبقات المجتمع".
وأكد مسؤولون صحيون، مطلع العام الحالي، أن جميع المواطنين، بمن فيهم غير المتزوجين، سيكونون قادرين على تسجيل المواليد الجدد من دون عقوبة، وهي مبادرة حكومية إضافية تهدف إلى تعزيز الخصوبة على حساب التقاليد السائدة في مجتمع ظل لعقود محكوماً بتعاليم صارمة، تجرم الإنجاب خارج إطار المؤسسة الزوجية.