استمع إلى الملخص
- يروي الأكاديمي شريف أبو هاني تجربته مع هذه الضغوطات، حيث فُصل من عمله بسبب مواقفه الوطنية، مما دفعه للانتقال إلى تدريس اللغة العربية والشريعة في الجامعات الفلسطينية.
- تتعامل وزارة التربية والأجهزة الأمنية الإسرائيلية مع قضايا المعلمين العرب بطرق متعددة، مستهدفة العرب بشكل خاص، مما يساهم في خلق جيل من المعلمين الخاضعين للضغوطات الأمنية والسياسية.
دفع معلّمون عرب في الداخل الفلسطيني على مدار سنوات، ثمن مواقفهم الوطنية، ليجد بعضهم أنفسهم خارج جهاز التربية والتعليم بقرار من الوزارة والأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
كثيرة هي محاولات إسكات المعلّمين العرب في الداخل الفلسطيني، وحكايات خلق جيل هجين من الأسرلة والتجهيل، قبل أن تضيف الحكومة الإسرائيلية أخيراً، قانوناً عنصرياً جديداً لملاحقة المعلمين العرب، والتضييق عليهم، وتسهيل اتهامهم بالإرهاب، ثم فصلهم من عملهم، أو حرمان مدارسهم من الميزانيات.
وتواترت تفاصيل من أروقة جهات أمنية وتربوية إسرائيلية، من بينها جهاز الأمن العام "الشاباك" وهيئة الأمن القومي، حول قضايا تتعلق بتحقيقات مع معلمين عرب في الداخل الفلسطيني، ومصادر الوشاية بهم، وطرق التعامل معهم، فضلاً عن قصص معلمين جرى فصلهم بعد مساومتهم على مواقفهم، وآخرين ترفض المؤسسة الإسرائيلية تعيينهم، أو تلقّوا تحذيرات بعد التحقيق معهم، بينما يُمنع حتى اليوم نشر أسمائهم.
من النقب، يقول الأكاديمي شريف أبو هاني، لـ "العربي الجديد" عن تفاصيل فصله: "كنت أعمل بمدرسة ثانوية في مدينة رهط، من 1997 حتى 2011، وضمن من يعملون على تجهيز الطلاب لامتحانات البجروت (التوجيهي). منذ شبابي المبكر أعتلي المنابر متطوعاً، وأخطب لصلاة الجمعة، ثم جمعت لاحقاً بين المسجد والمدرسة، وكنت حريصاً دائماً على طرح القضايا التي تهم مجتمعنا وشعبنا وأمّتنا، وأزعج المؤسسة الإسرائيلية ووزارة التعليم تركيزي في خطب الجمعة على رفض تجنيد عرب الداخل، خاصة في النقب".
يضيف: "كان ردي الدائم أنني أنتمي إلى الشعب الفلسطيني، ولا أريد أن أكون جندياً في الجيش الذي يحارب أمّتي وشعبي، ويوم يكون هناك سلام شامل، سأقبل أن أكون جندياً يدافع عن هذا السلام. لم ترض الدولة ومؤسساتها بهذا الكلام، وبدأت تلاحقني لفصلي من جهاز التعليم، وضغطوا عليّ في التحقيقات لتغيير هذه المواقف مهددين بإقالتي من المدرسة، فرفضت ذلك رفضاً قطعياً".
يشارك "الشاباك" وهيئة الأمن القومي في التحقيق مع معلمين عرب
يتابع أبو هاني: "يتبع معلّمو الثانوية من حيث التوظيف السلطات المحلية، لذا ضغطوا على بلدية رهط لفصلي، ورُفض طلبهم عدة مرات، حتى وافق أحد الرؤساء على فصلي. بعدها جرى سَنّ قانون، بلغني أنه بسبب قضيتي، يمنح حق التوظيف والفصل للسلطات المحلية، لكنه يمنح القرار الأخير لوزارة التعليم. أقرت الوزارة فصلي، وثبتت المحكمة العليا قرار الفصل، وقبلها توجّهت إلى محكمة العمل، وفي المرحلة الأخيرة، رفعت استئنافاً لمدير عام وزارة المعارف، ودار نقاش بيني وبينه، وصارحني بأن الأمر ليس بيده، بل بيد الأجهزة الأمنية. تم فصلي نهائياً في عام 2011، وبدأت بعد ذلك تدريس اللغة العربية والشريعة في الجامعات الفلسطينية".
ويوضح: "كانت التحقيقات معي تتم عن طريق جهاز الشاباك، واستخدمت الوزارة مضامين خطب الجمعة ونشاطاتي الاجتماعية ضدي في المحكمة لتبرير فصلي، بادّعاء أنني استغل المدرسة لتمرير رسائل تحريض للطلاب. القانون الجديد هدفه تضييق الخناق أكثر على المعلمين، بحيث لا يستطيعون اتخاذ موقف، أو حتى التعاطف. يريدوننا مجرد آلات داخل المدارس، بلا رأي ولا مبدأ، والقانون الجديد سيزيد سوء الأوضاع القائمة".
في المقابل، يكشف مصدر مطّلع على ما يحدث في جهاز التعليم لـ "العربي الجديد"، كيفية تعامل وزارة التربية والأجهزة الأمنية مع قضايا المعلمين العرب، ويقول: "حتى عام 2007، كانت في الوزارة وظيفة تُسمى نائب مدير التعليم العربي، وكان يحصل على راتبه من جهاز الشاباك، وكان مسؤولاً عن تعيين معلمي ومديري المدارس. في نفس العام صدر قرار قضائي أنهى وجود هذه الوظيفة، لتنتقل صلاحية التعيين إلى الألوية من دون تدخل أي جهة في التعيينات. كان هناك دائماً فحص للمعلمين، والجهات المعنية كانت تضع عينها على معلمين تدور حولهم علامات استفهام، أو تصلها شكاوى بأنهم (يحرّضون ضد الدولة)، أو شاركوا في تظاهرة، أو قالوا شيئاً، أو رفعوا شعاراً ما. كانت الوزارة تفحص الشكوى، وترسلها إلى الشاباك ليفحصها، فإن كان الأمر صحيحاً، يتم دعوة المعلم إلى لجنة استماع لدى مدير اللواء، وهذا الأمر مستمر حتى اليوم".
تصل شكاوى ضد معلمين من أهالي طلاب ومديري مدارس ومجهولين
يضيف المصدر: "عادة ما كانت تصل الشكاوى من عدة مصادر رئيسية، هي أهالي طلاب، ومديرو المدارس، ومعلمون، وكثيراً ما كانت تصل رسائل من مجهولين لا يتم الكشف عن هويتهم. أحياناً تصل الشكاوى مباشرة إلى الشاباك، وأحياناً تكون الرسائل مرفقة بصور أو مقاطع فيديو لما كتبه أو قاله المعلم على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي. على مدار سنوات طويلة، كانت الشكاوى التي تصل من الناس إلى الوزارة أكبر من تلك التي تصل من الشاباك، ووصل الأمر في إحدى السنوات إلى وصول 25 حالة من الشاباك مقابل نحو 400 من أشخاص".
يكرر المصدر الذي شارك في عدة اجتماعات بمشاركة "الشاباك" وجهات أمنية أخرى، بعضها عُقد في هيئة الأمن القومي الإسرائيلي، أن "الشاباك" لم يكن معنياً بهذا الدور، ويقول: "شاركت في جلسات كثيرة، والشاباك يعارض الفحص الأمني للمعلمين، حتى إنه في القانون الجديد رفض لعب هذا الدور، ويقول للوزارة إذا كان هناك مخالفة لدى معلم، فلتفحصها الشرطة. عادة الحالات التي تصل شكاوى حولها هي حالات خطرة. في حالتين من الجنوب مثلاً، نتحدّث عن معلمين كانا على علاقة بتنظيم داعش، وقليلاً ما تصل شكاوى بسبب تعبير المعلم عن مواقف. في عام 2016، أصبحت مدارس كانت تابعة للحركة الإسلامية (الشمالية) خارج القانون، وانتقلت إلى ملكية أخرى بعد حظر الحركة".
يتابع المصدر أنه "عندما تتعلق الأمور بشبهات أمنية، كان الشاباك يستدعي المعلمين من دون أي علاقة لوزارة المعارف، لكن إذا كانت هناك شبهات خفيفة، كان مديرو الألوية يدعون المعلمين لجلسات استماع، وأحياناً يقول الشاباك إنه ليست هناك مخالفة أمنية، وهنا يفضّل أن تتم معالجة الأمر من قبل مدير اللواء عبر توجيه ملاحظات للمعلم. ثمة تعتيم على أسماء هؤلاء المعلمين الذين تم التحقيق معهم قبل سنوات، وهناك معلمون عرب لم يتح القانون فصلهم في قضايا من قبيل الخروج في تظاهرات لوجود معلمين يهود أيضاً في التظاهرات".
ويزعم المصدر أيضاً أن القانون الذي سُن أخيراً ليس لملاحقة العرب، إذ "يمكن أن يسري على المعلمين اليهود أيضاً". في حين يؤكد الواقع المعاش أن الكثير من القوانين تُطبق على العرب في الداخل دون اليهود، ومنذ بداية الحرب تمت ملاحقة العديد من "فلسطينيي 48" من مختلف المجالات، بسبب مواقف ومنشورات، فيما لم يُطبق الأمر ذاته على اليهود الذين أطلقوا تحريضات دموية ضد العرب، واحتفلوا بمقتل العديد منهم.
كان مركز "ميزان" الحقوقي ممثلاً للعديد من معلمي الداخل الفلسطيني الذين تمت ملاحقتهم بسبب مواقف وطنية. ويؤكد المحامي عمر خمايسي لـ "العربي الجديد"، أن "كل من يدعم القضية الفلسطينية يمكن أن يُتهم بالإرهاب، ومن ذلك قضية معلّم من الشمال، أدين قبل سنوات بما قد تعتبره إسرائيل تحريضاً وتماهياً مع الإرهاب. كان المعلم قد بدأ التدريس قبل استكمال دراسته، وبعد استكمالها رفضوا منحه شهادة تدريس، وقدّموه إلى لجنة استماع عندما أراد التقدّم للوظيفة، ثم أخبروه بأنه لا يمكن توظيفه بسبب ملفات قديمة".
ويرى خمايسي أن "المعلمين العرب شريحة ملاحقة من قبل المؤسسة الإسرائيلية التي تحاول إعادة خلق جيل خانع وخاضع من المعلمين ومديري المدارس، وقد عادوا من خلال القانون الجديد إلى رفع سقف القمع، حتى يتردد المعلم في الحديث خلال المناسبات الوطنية التي في صلب هوية مجتمعنا، أو حتى التعاطف الإنساني مع أهالي غزة أو الضفة أو القدس، فالهجوم على قطاع التعليم ممنهج لضرب مجتمعنا".
ويعتقد أن "الدور الذي يلعبه الشاباك ظل قائماً بعد إلغاء وظيفة نائب مدير التعليم العربي في عام 2007، ولكن بتسمية أخرى. في إحدى القضايا خلال العام الأخير، وخلال مرافقة أحد المعلمين في التماس ضد رفض تعيينه، دُعي المعلّم إلى جلسة استماع كان فيها مسؤول من المخابرات. التسميات اختلفت لكن بقيت الأدوار ذاتها، وذات مرة تمت دعوة معلم من قبل الشاباك إلى غرفة مدير المدرسة".
ويوضح خمايسي: "تكمن خطورة القانون الجديد في أنه يمنح صلاحية فصل معلم لموظف، فالمدير العام لوزارة المعارف هو في نهاية المطاف موظّف يعيّنه الوزير، والقانون يمنحه صلاحيات ضمنية تتيح له تفسير المواقف بحسب خلفيته الثقافية والأيديولوجية، ما يعزز الملاحقة، فكل معلم أو مدير يقوم بأبسط فعل قد تتم إقالته، وهذا يجعل رسالة المعلم منقوصة، وتقتصر على التعليم بدلاً من بناء شخصية الطالب".