الخرافات الصينية... عرّافون يتدخلون في الخيارات والتصرفات

08 اغسطس 2021
عرّافو الصين يجنون مليارات (ليا سوزوكي/ Getty)
+ الخط -

تعتبر الصين إحدى أكثر الدول تطوراً في مجال علوم التكنولوجيا، وحققت خلال السنوات الأخيرة قفزة كبيرة في هذا المجال، بعدما باتت أول دولة ترسل مسباراً إلى الجانب المظلم للقمر، ضمن برامجها الطموحة لاستكشاف الفضاء وبناء محطة مأهولة بحلول نهاية عام 2022. 
لكن هذا التقدم لم ينهِ ظاهرة انتشار الخرافات في مجتمع لا يزال يؤمن بشكل كبير بثقافة الحظ وعلم الغيب. حتى أن عرّافاً صينياً حدّد سابقاً موعد تنفيذ رحلة استكشاف علمية إلى الفضاء، وآخر توقيت استضافة البلاد دورة الألعاب الأولمبية عام 2008، حين أوصى المنظمين بإقامة حفل الافتتاح في الساعة الثامنة من اليوم الثامن بالشهر الثامن، لأنه يتوافق مع فترة الحظ، باعتبار أن الرقم ثمانية يرمز إلى الوفرة والثراء في التقاليد والثقافة الصينية. 
وفي عموم الصين، خصوصاً في المناطق الريفية، إذا أراد شخص أن يتزوج أو يبني منزلاً، أو حتى يختار قبراً لميت، أو يبحث عن وظيفة أو اسم لمولود، يجب أن يلجأ إلى عرّاف مرموق يوجّه خياراته. لذا يتهافت الصينيون، بغض النظر عن مستوى ثقافتهم ومراكزهم وطبقاتهم الاجتماعية، على هؤلاء لمساعدتهم في معرفة ما يجب فعله أو تجنبه في حالات ومناسبات محددة. ويطلق العرّافون توصياتهم استناداً إلى دراستهم الأبراج وتحديد نوع الدم والجنس والعمر، كما يأخذون معايير أخرى في الاعتبار، ويربطونها بدرجة الحظ وسوء الطالع. 

300 مليار دولار
هذه الظاهرة الفريدة صنعت طبقة عرّافين أثرياء، حققوا فوائد كبيرة من النفوذ الذي يتمتعون به في مجتمع يسيطر عليه الإلحاد والإيمان المطلق بالخرافات والأساطير الشعبية، علماً أن إحصاءات غير رسمية قدّرت إيرادات العرافين سنوياً في الصين بأكثر من 300 مليار دولار.

قضايا وناس
التحديثات الحية

وتعرّف الخرافة، وفق القاموس الصيني، بأنها الإيمان المطلق بالآلهة والأشباح، وتشير عموماً إلى الاعتقاد غير العقلاني بسلوك أو طقوس معيّنة ذات تأثير كبير على الأفراد والجماعات، وظهرت للمرة الأولى في البلاد خلال حقبة السلالات الحاكمة، وتحديداً فترة سلالة الإمبراطور جو الممتدة بين عامي 1122 و256 قبل الميلاد، حين ضم الأمراء إلى حاشياتهم عرّافين ومنجمين قدموا إرشادات لهم في شؤون حياتهم الخاصة، وتدخلوا حتى في القرارات السياسية. 
وربطت مدونات تاريخية ارتقاء عدد من حكام الإمبراطورية والجنرالات والوزراء في الصين إلى السلطة بعرّافين. وتحدثت أبرزها عن تولي يوان شيكاي السلطة كأول رئيس لجمهورية الصين بين عامي 1913 و1916، بفضل عرّاف أبلغه حينها بأنه الشخص الأنسب لتسلم الحكم. ويذهب بعض المراقبين والمحللين التاريخيين بعيداً في تحديد أهمية ظاهرة العرّافين في الصين، ويقولون إنه "لولاهم لكان يجب إعادة كتابة تاريخ الصين مجدداً".
ويتناقل عامة الناس في الصين خرافات عن سطوة عرّافين يتدخلون حتى في توجيه خيارات التصرفات مع تحديد تأثيراتها الإيجابية أو السلبية على حياة الأشخاص المعنيين بتنفيذها، وبينها النهي عن تمشيط شعر الرأس في اليوم الأول من العام الجديد، وتجنّب وضع السرير في مواجهة مرآة، والحذر من ارتجاف الجفن الأيسر باعتباره نذير شؤم، وعدم الالتفات إلى الخلف أثناء السير ليلاً لتجنب ملاحقة الأشباح، وعدم إهداء الآخرين ساعة يد لأن ذلك يشبه الوداع الأخير لشخص على فراش الموت.

تقرأ طالع امرأة في شارع ببكين (وانغ زهاو/ فرانس برس)
تقرأ طالع امرأة في شارع ببكين (وانغ زهاو/ فرانس برس)

"حياكة" أفكار
يرد الباحث في علم النفس الاجتماعي وانغ تشو على سؤال وجهته "العربي الجديد" عن الأسباب التي تدفع معظم طبقات المجتمع الصيني وبينهم المثقفون إلى "استشارة" عرّافين في إدارة شؤونهم اليومية، بأن "لا علاقة لهذا الأمر بمستوى التحصيل العلمي لأي شخص. فالحقيقة أن تقدم العلم لم يمنع انتشار الظاهرة وتغلغلها في المجتمع". يضيف: "يميل الناس عندما يواجهون ضغوطاً في حياتهم إلى فعل أشياء غير منطقية، لأن الروح المضطربة تحتاج إلى استشارة عاطفية ودعم نفسي. من هنا قد يعتبر بعض الناس أن إيمانهم بالخرافة أكثر سهولة من مواجهة تحديات الحياة، وهذا أمر لا علاقة له بالمستوى الأكاديمي لشخص أو وضعه المادي".
ويوضح وانغ أن "قسوة الواقع الذي يواجه بعض الناس قد تدفعهم نحو الخرافات التي ينظرون إليها باعتبارها أكثر ملاءمة واستجابة لحالاتهم النفسية. وتجعل العواطف هؤلاء الناس يميلون إلى قبول تفسيرات معيّنة بغض النظر عن صحتها، في وقت يبدو العرّافون أشبه بخياطين يحيكون أفكاراً محددة في عقول الناس، لأنهم يملكون قدرات كبيرة على الإقناع، والتأثير من خلال مراقبة الكلمات التي ينطق بها الضحايا وسلوكهم وأساليب تصرفهم في اللقاءات التي يجرونها معهم". 

نوع من السيطرة
من جهته، يقول أستاذ الدراسات التاريخية السابق في جامعة لياونيغ يوان لي شاو، لـ"العربي الجديد"، إن "الصين شهدت خلال مراحل تطورها فصولاً من خرافات ظهرت كفكر ثقافي تقليدي. وغذّى ذلك لجوء حكام الإمبراطورية إلى عرّافين لتثبيت أركان حكمهم وترويج سياساتهم". 

قضايا وناس
التحديثات الحية

ويشير إلى أن "تداول الخرافات والخضوع لتأثيراتها كان يقتصر فقط على بلاط الحكام. ومع مرور الوقت بدأت تتغلغل في الأرياف الفقيرة، ثم في المدن والمعابد مع تقوية الروابط والمبادلات بين الريف والمناطق الحضرية. ولا شك في أن الطبيعة التنافسية في المدن عززت هذه الظاهرة، وشجعت أناساً كثيرين على الإيمان بها من أجل زيادة حظوظهم وفرصهم المتاحة، ومنحهم نوعاً من السيطرة على البيئة المحيطة، تمهيداً للتقليل من حالات الضغط والتوتر والارتباك النفسي".
ويستبعد يوان أن تتراجع الخرافات في الصين على المدى القصير، رغم أن الدولة تكافحها بكل الوسائل المتاحة، و"ستبقى موجودة ما دام هناك أناس قادرون على تخيل فصولها وإقناع آخرين بها وبتأثيرها المباشر على حياتهم، وما دامت ظروف الحياة تدفع أشخاصاً عاديين إلى البحث عن توجيهات الخرافات".
واللافت أن بنداً في القانون الجنائي للصين ينص على معاقبة من يستخدم الخرافات لتقويض تنفيذ القوانين واللوائح الإدارية الوطنية بالسجن ثلاث سنوات على الأقل، باعتبار أن "الخرافة تضرّ بالمصالح الوطنية والاستقرار الاجتماعي وحياة الناس والممتلكات العامة".

المساهمون