في خلفية الأحداث التي تشهدها أفغانستان البعيدة جغرافياً عن القارة الأوروبية يظهر خوف وقلق في أوروبا من عودة مشهد التدفق الكبير للاجئين الأفغان والسوريين أنفسهم إلى أراضيها عام 2015، في ظل توقع مغادرة 4 ملايين أفغاني بلادهم، ومحاولة بعضهم شق طريقهم إلى القارة العجوز عبر دول الجوار.
ويقدر الأوروبيون في نقاشاتهم الدائرة منذ أن سيطرت حركة "طالبان" على العاصمة كابول في وقت سابق من أغسطس/ آب الجاري، أن أزمة لجوء جديدة تلوح في الأفق، في وقت لم تنته ذيول أزمة أخرى حصلت قبل 6 سنوات. ويستند هؤلاء إلى استمرار تدفق آلاف الأفغان إلى مطار عاصمتهم لمحاولة المغادرة إلى دول أجنبية، وسعي مئات الآلاف الآخرين إلى محاولة شق طريقهم براً، بأي وسيلة ممكنة، عبر دولة ثالثة، في مسار شهد تجارب نزوح سابقة ويمتد من إيران إلى تركيا وصولاً إلى دول في الاتحاد الأوروبي.
وتشير تقديرات لهيئات أوروبية معنية بشؤون النزوح والهجرة إلى أن القارة العجوز ستواجه احتمال تدفق كبير إلى أراضيها بعد الانتهاء من عملية سحب القوات الدولية والأميركية التي غزت أفغانستان نهاية عام 2001 آخر المتعاونين معها.
"فوضى ميركل" في الذاكرة
وفي الكواليس، تعزز الوكالة الأوروبية لحماية الحدود (فرونتيكس) وغيرها إجراءاتها لمحاولة صدّ التدفق المحتمل من أفغانستان، أو تخفيفه، وذلك استناداً إلى تجاربها في مواجهة تدفق آلاف الأفغان والسوريين الذين شكلوا غالبية النازحين إلى أوروبا نهاية صيف 2015، عبر ما عرف بـ "مسار البلقان"، والذي أدى إلى نتائج تشبه انهيار نظام الهجرة الأوروبي، خصوصاً بعد تجميد اتفاق دبلن، تمهيداً للسماح بتدفق اللاجئين إلى ألمانيا، من دون الأخذ في الاعتبار أن بلد الوصول الأول هو مقر طالبي اللجوء.
ولا تزال الخطوة الألمانية موضع خلافات أوروبية حادة مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، المتهمة بأن "سياستها المنفتحة على المهاجرين خلقت فوضى في اللجوء".
ورغم أن "فرونتيكس" استنفرت ورفعت تأهبها وعززت قواتها لحراسة الحدود الخارجية للقارة الأوروبية، لكن سياسيين وقانونيين في دول أوروبية عدة يراقبون ما يحصل في المسار البري الممتد من طهران إلى مدن شرقي تركيا، في ظل حال ذعر من خطر تكرار سيناريو عام 2015.
ودفع ذلك المرشح لخلافة المستشارة ميركل في ألمانيا، آرمين لاشيت، إلى المطالبة باعتماد سياسة في كل القارة الأوروبية وليس في بلاده فقط، لوقف التدفق الأفغاني من أجل طلب اللجوء. وعزز القلق توقع وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل أن تشهد حدود القارة العجوز تدفقاً كبيراً للاجئين الأفغان، ما يخلق نوعاً من معضلة سياسية وحقوقية تطلق من جهة مواقف ترفض تقييد "طالبان" حرية مغادرة الراغبين، وتتمسك من جهة أخرى بمحاولة إبعاد اللاجئين عن حدود القارة".
"حائط صد"
ويرى البعض أن التعويل على قدرات "فرونتيكس"، وتوسيع صلاحيتها لصدّ طالبي اللجوء والمهاجرين السريين، أمر غير مطمئن وسط اعتقاد الوكالة نفسها، استناداً إلى تقييمات أجرتها للمخاطر المحتملة، بأن القارة تواجه مصاعب عدة في صدّ عمليات التسلل عبر دول ثالثة، حتى مع تزايد عمليات التدريب ورفع قيمة التمويل. ففي بحر إيجه، المسار التركي نحو الجزر والبر في اليونان، ترفع أوروبا درجة استنفار عملياتها عبر إرسال مزيد من التعزيزات العسكرية، وتكثيف الدوريات التي تشارك فيها معظم دول الشمال لتشكيل "حائط صد" مقابل السواحل الشرقية في تركيا، وتعزيز سياسة بناء الجدران ووضع الأسلاك على طول البرّ الأوروبي. ويشكل ذلك محاولة لتقليل الأضرار والأزمات التي يمكن أن تنتج من عبور أرتال من اللاجئين طرقا سريعة، وهو ما حصل سابقاً، عبر سلوكهم طريق البلقان وصولاً إلى المجر.
"جدار تركيا" ضروري
وفي موازاة إسراع الأوروبيين لتجاوز معضلات الوضع المضطرب في أفغانستان، وتأكيدهم في رسائل عدم ترحيبهم بالأفغان الراغبين في الوصول إلى القارة عبر موجات بشرية، تتعالى أيضاً الأصوات التي تطالب بضرورة فتح حوار عميق ومثمر مع تركيا من أجل التعاون في تقليل الأضرار. وبين السيناريوهات التي يناقشها الأوروبيون في شكل كثيف خلف الكواليس مع تركيا، تعزيز أنقرة جدارها لمنع الدخول عبر حدودها الشرقية مع إيران.
وترى الباحثة في شؤون الهجرة بجامعة كوبنهاغن، آنا يوهانسن، أن "بروكسل مضطرة إلى إيجاد تسويات مع أنقرة في هذا المجال، وتجاوز الخلافات معها من أجل وضع تدفق الأفغان تحت رادار أوروبا لمنع وصولهم، وتوحيد أساليب التعاطي مع الأزمة التي تلوح في الأفق".
ولا شك في أن الاتحاد الأوروبي يعاني من غياب الانسجام بين دوله، والنظرة المختلفة إلى أهمية وكالة "فرونتيكس" ودورها، في ظل مواجهة الوكالة اتهامات حقوقية بارتكاب انتهاكات جسيمة في البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه. فالحقيقة أن الأوروبيين عاجزون منذ عام 2016 عن تعزيز دور هذه الوكالة، خصوصاً على صعيد تمويلها ومدّها بحوالى 10 آلاف جندي لزيادة قوتها على الأرض، في وقت يلاحظ أن سياسة بناء الجدران والأسلاك الشائكة لم تمنع قبل 6 سنوات احتلال الأفغان المرتبة الثالثة، بعد السوريين والباكستانيين، على قائمة جنسيات طالبي اللجوء في القارة. وتخطى التدفق الأفغاني نظيره العراقي الذي استخدمه أخيراً الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو كورقة ضغط سياسية من خلال السماح للعراقيين بالدخول إلى مينسك للتوجه إلى ليتوانيا وبولندا.
وتحذر مفوضة الشؤون الداخلية والهجرة في الاتحاد الأوروبي الفنلندية إيلفا يوهانسون دول القارة من أن أرقام التدفق المحتمل للأفغان "ستكون كبيرة جداً"، ما يحتم مراقبة حركة تدفقهم إلى دول الجوار، ويعيد تأكيد أهمية الحديث عن توافق مع تركيا، بعدما كشفت تقارير أخيرة تزايد الهروب نحو إيران بهدف الوصول إلى حدود تركيا، علماً أن الأخيرة توشك استكمال تشييد الجدار الخرساني بارتفاع ثلاثة أمتار على حدودها الشرقية مع إيران، في وقت يتخوف الأوروبيون من أن تستخدم طهران اللاجئين الأفغان كورقة مساومة وضغط عليهم.
معضلة اليسار الأوروبي
لكن التفاوض مع تركيا يواجه معارضة أيديولوجية من اليسار الأوروبي، ما يقلّص فرص بروكسل في إيجاد وسائل أخرى للتعاطي مع احتمال إغراق القارة بمئات آلاف الأفغان الفارين من بلادهم.
ويتهم أعضاء في البرلمان الأوروبي، خصوصاً من اليسار، حركة "طالبان" بتعمد استعمال ورقة اللاجئين. ويعتبرون أن تسامحها مع المغادرة "يشبه تلك التي انتهجها الزعيم الكوبي السابق فيديل كاسترو في السماح بمغادرة مواطنيه إلى الولايات المتحدة الأميركية، من أجل ممارسة ضغوط على واشنطن والتخلص في الوقت ذاته من معارضين محتملين لنظامه".
وعن توقعاته في شأن ما قد تفعله "طالبان" في الأيام القادمة، يعترف عضو البرلمان الأوروبي عن يسار الوسط "راديكال"، الدنماركي مورتن بيترسن، في حديثه لـ"العربي الجديد" بأن الاتحاد الأوروبي يواجه معضلة عدم وجود توافق بين أعضائه، ما يشجع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الذهاب بعيداً في استغلال هذه الخلافات والمخاوف الأوروبية في الوقت ذاته، وصولاً إلى إجبار الاتحاد على التفاوض معه. كما لا يريد الأوروبيون السماح باستغلال طهران اللاجئين والمهاجرين من أفغانستان لدفعهم إلى عقد صفقات معها".
إسلام آباد تبحث عن صفقة أيضاً
وأبلغت مصادر أوروبية في كوبنهاغن رفضت الكشف عن اسمها "العربي الجديد" أن "إسلام آباد ضغطت للحصول على صفقة مع الأوروبيين في شأن اللاجئين الأفغان، ما يعني تحوّلها إلى لاعب رئيسي في كواليس محاولة الأوروبيين تطويق أزمة كبيرة للاجئين". وتكشف هذه المصادر أن "فكرة إنشاء مراكز استقبال (معسكرات) في دول أخرى للراغبين في اللجوء إلى أوروبا، تعد بين الخيارات التي تخضع لنقاشات كثيفة وسريعة مع دول آسيوية مجاورة لأفغانستان، تمهيداً لتجنب وصول 120 ألف طالب لجوء أفغاني على الأقل عبر مهربين إلى قلب أوروبا خلال فترة قصيرة".
ويكشف موقع "بوليتيكو" الأميركي أن الأوروبيين بذلوا جهوداً حثيثة عبر سلسلة اجتماعات عقدوها الأسبوع الماضي لتوجيه رسائل، بالتعاون مع الحلف الأطلسي (ناتو) ومجموعة الدول السبع الكبرى، إلى المجتمع الأفغاني تفيد بأن لجوءهم إلى القارة لن يحصل، وأن الحماية المنشودة لهم ستوفرها دول الجوار الأفغاني.
الدنمارك "المتشددة"
ووجهت دول مثل الدنمارك على سبيل المثال، رسائل أكثر تشدداً بحسب ما أبلغت مصادر في الحزب الاجتماعي الديمقراطي الحاكم "العربي الجديد"، إذ قالت إنه "بعد الانتهاء من إجلاء المترجمين وأسرهم والذين وضعوا في أكبر معسكر لاستقبال اللاجئين في أفغانستان سيمنحون إقامات مؤقتة فقط تشبه تلك التي حصل عليها آلاف السوريين، ولا تزال تثير سجالاً كبيراً بسبب مدتها المحصورة بعامين، واشتراط تعهدهم المغادرة إلى بلدهم فور تحسن الأوضاع".
واللافت ان حكومة يسار الوسط المدعومة من اليمين في الدنمارك، ظلت حتى الأسبوع الأخير الذي سبق سيطرة طالبان على كابول تضغط على حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني لاستقبال مزيد من المرحلين الذين رُفضت طلبات لجوئهم في الدنمارك. وقد توقف الترحيل فعلياً، لكن "وضع الترحيل" لم يرفع عن مئات ممن ينتظرون خضوعهم للإجراء، رغم كل الانتقادات الحقوقية واليسارية في البلاد.
رسالة ألمانية
وفي مواجهة قلق أوروبا من احتمال التدفق الأفغاني، توضح ألمانيا أنها "ليست معنية بتكرار تجربة عام 2015، حتى لو اتفق الاتحاد الأوروبي مع تركيا"، بحسب ما يؤكد لاشيت. لكن برلين دخلت في مفاوضات مع دول أوروبية أخرى بينها إسبانيا لتوزيع نحو 10 آلاف لاجئ، مع توجيهها رسالة تفيد بأن حصتها من اللاجئين خلال السنوات الخمس المقبلة لن تتجاوز 20 ألف شخص (بخلاف استقبالها نحو مليون عام 2015).
وينسق الألمان جهودهم مع الفرنسيين لتطبيق سياسة تمنع تحويل أوروبا إلى هدف للهجرة السرية، بحسب مناقشات أجريت أخيراً بين ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ولا يختلف موقف بريطانيا عن نظيره في أوروبا، إذ تجاهل وزير خارجيتها دومينك راب حال الذعر التي شهدها حي السفارات ومحيط مطار كابول لدى محاولة آلاف الأفغان الحصول على تأشيرات لجوء، وواصل إجازته في جزيرة كريت اليونانية من دون أن يرسل إشارة إلى أن بلاده ستتحمل قسطاً من الراغبين بالخروج من أفغانستان.
"برودة" أوروبية
في الإجمال تبدو أوروبا "أكثر برودة" و"أقل حماسة" لتطبيق شعاراتها التي تطالب "طالبان" بترك الراغبين في المغادرة، خصوصاً أن دولها تحتضن حالياً 44 ألف أفغاني رفضت طلبات لجوئهم، ولم تسرع أيضاً إلى تغيير وضعهم ومنحهم إقامات خوفاً من توجيه "إشارة سلبية" تدفع مئات الآلاف إلى المخاطرة بالتوجه نحو أوروبا.
ولخصت مفوضة الشؤون الداخلية والهجرة الأوروبية، يوهانسون، ملامح التصرف الأوروبي المستقبلي "عبر التعاون مع تركيا وطاجكستان وباكستان وإيران، ومنظمة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة ومنظمة الهجرة الدولية لمعالجة موضوع عودة المهجرين واللاجئين الأفغان إلى بلادهم التي تضم أيضاً بين 3 و4 ملايين مهجر في الداخل، بينهم حوالى 120 ألف نازح من أقاليم أخرى يتواجدون بلا مأوى في كابول".