في تقليد اجتماعي قديم، دأبت أسر صينية على استحضار أرواح الآباء الأموات في اليوم الأربعين من تاريخ وفاتهم، بمساعدة عرّافين متخصصين في هذا الأمر. ويجتمع أفراد الأسرة الواحدة في اليوم المحدد حول العراف الذي يمارس طقوساً معينة، ثم يبدأ بالتحدث مستعيراً لسان الميت في قضايا تخص الوصايا والنزاعات الأسرية. ويهدف التقليد إلى حسم الجدل في ما يخص الميراث، وخصوصاً إذا كان المتوفى من أصحاب الأراضي والأملاك الخاصة. وبحسب الأعراف الصينية، فإن الجميع يمتثل إلى ما يقوله الأب على لسان العراف، وبالتالي تكون الجلسة مهمة وينبغي أن يحضرها كل الأبناء حتى أولئك الذين يعملون ويقيمون بعيداً عن بيت العائلة.
شياو آي فتاة تعيش في مقاطعة غوانغ دونغ جنوب الصين، توفي والدها قبل نحو شهرين. وفي اليوم الأربعين من وفاته، لجأت أسرتها إلى أحد العرافين من أجل استحضار روحه لحسم بعض المسائل التي تتعلق بأملاكه. تقول لـ "العربي الجديد": "ترك والدي شقة وقطعة أرض ومركبة قديمة كان يعمل عليها قبل أعوام. وبعد وفاته المفاجئة، حدث خلاف بيننا (الأبناء) بشأن الميراث، فأمي متوفاة منذ زمن، وأنا من كان يعيل أبي في منزله، بينما شقيقي الأكبر متزوج ويقيم في مدينة أخرى، أما أصغرنا سناً فيستعد للزواج نهاية العام الجاري". تضيف: "في الجلسة المحددة، حضرنا جميعاً واستمعنا إلى روح أبي وهي تحثنا عن الترابط لمواجهة تحديات الحياة وظروف المعيشة الصعبة، وتأثرنا وبكينا معاً حين قال إنه يفتقدنا ولا يريد أن يرى خلافاً بيننا". وعن حسم مسألة الميراث، توضح شياو آي أن والدها منح المنزل لشقيقها الأصغر وأبقى على غرفة لها إلى حين زواجها، وطلب بيع المركبة وقطعة الأرض على أن يوزع الثمن بالتساوي بين الأبناء الثلاثة، مشيرة إلى أن القسمة كانت عادلة ولم يعترض عليها أحد، وهم بصدد تنفيذ الوصية خلال الفترة المقبلة.
تواطؤ مشترك
وفي شرحها لهذا التقليد ودوره في في حل النزاعات بشأن الميراث وقضايا أخرى، تقول الباحثة الاجتماعية تانغ لي لـ "العربي الجديد" إن استنطاق الأرواح أحد أشكال الاجتهادات الاجتماعية التي برزت في ظل غياب قانون يشرّع قضية الميراث في الصين، موضحة أن الأمر عبارة عن تواطؤ مشترك بين ذوي الميت والعرّاف، لأن الأبناء يدركون جيداً أنه من الاستحالة أن يعود المتوفى ليتحدث بمسائل لم تعد تخصه ولم يعد مطلعاً عليها أساساً، وكذلك الأمر بالنسبة للعراف الذي يعلم دافع اللجوء إليه ويعدّ نفسه جيداً لهذه المهمة.
تضيف أنه قبل تحديد موعد الجلسة بأسبوع، يبدأ العراف بالتحري وجمع المعلومات عن أبناء المتوفي، (مستواهم المعيشي، ظروف عملهم، صراعاتهم الداخلية، علاقاتهم بأقربائهم)، كما يطلع على ميراث الميت، ويدرس علاقته بأبنائه قبل وفاته، ثم يرسم ملامح الخطاب (خطاب المتوفى) الذي من المفترض أن يكون خطاباً جامعاً من دون أن يترك أي ثغرات قد تتسبب لاحقاً في نشوب خلافات جديدة بين الأبناء.
وتؤكد أن هذه التقاليد والخطابات وإن كانت غير واقعية، تلقى رواجاً كبيراً في المجتمع، وتلعب دوراً بارزاً في تذليل العقبات وحسم المسائل الإشكالية بين ذوي الميت، بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي والثقافي. وتشير إلى أن عدم جدوى اللجوء إلى المحاكم في مثل هذه القضايا نظراً لقصور القانون في تنظيم مسألة الميراث والنزاعات الاجتماعية، الأمر الذي يدفع العائلات إلى الاحتكام للخرافة ضمن تواطؤ مجتمعي تكون فيه الكلمة الفصل لرجل ميت يحضر بصوته عبر عراف متمرس لديه سطوة وحظوة على الرغم من أنه يمارس الزيف والتقمص بعلم جميع من حوله.
مرجع روحي
وتفيد روايات صينية بأن فكرة استحضار الأرواح تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، وكان الصينيون القدماء يؤمنون بأن الروح تنتقل بعد الموت إلى عالم آخر مواز للعالم المادي، وتتمتع بقدرات خارقة للطبيعة مثل شفاء المرضى وعلاج العقم ومنح الثروة. لذلك، لجأوا في بادئ الأمر لاستحضارها عبر طقوس غريبة انتشرت آنذاك بهدف مساعدة الأحياء في معيشتهم، وتحقيق أحلامهم وأمانيهم. ومع مرور الوقت، تحول هذا التقليد إلى وسيلة لتهدئة نفوس ذوي الميت بعد وفاته، وكانت الأرواح تستحضر من أجل الاستئناس ومد العائلات بالقوة الروحية لاستكمال الحياة دون من غادروا إلى العالم الآخر. ولكن بعدما فرضت الحياة الصناعية أحكامها على الناس، أخذت هذه التقاليد مسارات مختلفة بعيداً عن الروحانيات، فأصبح لها علاقة أكثر بالمسائل المادية، وباتت وسيلة للكسب المادي بالنسبة للعرافين، في ظل الحاجة المجتمعية لوجود مرجع روحي يعوّض غياب القانون المخوّل تنظيم حياة الناس.
يشار إلى أن الصين لم تضع قانوناً ينظم مسألة الميراث إلا في ثمانينيات القرن الماضي، وهو قانون عام لم يتطرق إلى التفاصيل، الأمر الذي صعّب عملية الاحتكام إلى القضاء في حل النزاعات ذات الصلة. ووفق قانون الميراث في جمهورية الصين الشعبية الذي دخل حيز التنفيذ في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 1985، يجوز لأي شخص في الصين تحديد من يرثه ومقدار ذلك من خلال تعيين الوريث من بين الورثة الشرعيين، مثل الزوج أو الزوجة، والأطفال، والأشقاء، والأجداد. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أيضاً من خلال تقديم وصية، التبرع بالممتلكات الخاصة إلى الدولة أو إلى جماعة أو منظمة أو فرد غير وريث شرعي. وفي حال مات الشخص من دون وصية تؤول ممتلكاته مباشرة إلى الورثة الشرعيين وتكون الأولوية للزوجة والأبناء والآباء (المستوى الأول من الورثة). وفي حال تعذر ذلك، تؤول الممتلكات إلى الورثة من المستوى الثاني، وهم الأشقاء والأجداد.