وقع ثلاثة أطفال ضحايا لجرائم قتل أسرية هزت الأردن خلال العام الحالي، كان آخرها في نهاية يونيو/ حزيران الماضي، حين قُتل طفل في السابعة من العمر إثر تعرّضه للضرب والحرق عن طريق سكب المياه الساخنة عليه من قبل والديه بالتبني، فيما أقدم أب على قتل طفلتيه (سنتان و3 سنوات) بواسطة أداة حادة في البادية الجنوبية في مارس/ آذار الماضي، ما قد يؤشّر إلى عنفٍ متنامٍ خلف الأبواب.
وعلى الرغم من عدم وجود دراسة حديثة عن العنف الذي يتعرض له الأطفال، فإنّ مسح السكان والصحة الأسرية (2017 - 2018) الصادر عن دائرة الإحصاءات العامة، كشف عن تعرض 81 في المائة من الأطفال (ما بين عام و14 عاماً) إلى أحد الأساليب العنفية بهدف التأديب، خلال الشهر الذي سبق المسح، فيما تعرض 59 في المائة لعقاب جسدي.
وتشير التقديرات إلى ارتفاع كبير في معدلات العنف الواقعة بحق الأطفال خلال جائحة كورونا، لكن لم يتم خلال هذه الفترة توفير آليات للوصول إلى الأطفال الأكثر عرضة للعنف.
مفاهيم خاطئة
في هذا السياق، تقول أستاذة علم الجريمة، خولة الحسن، لـ"العربي الجديد": "العنف الممارس ضد الأطفال مسكوت عنه في الثقافة الاجتماعية، وهناك من يعتقد أنّ تعنيف الأطفال يحقّق التربية المبتغاة". تضيف: "هناك مفاهيم خاطئة للتربية" وتعطي مثالاً على قيام أب بتعليق ابنه على شجرة بذريعة تربيته، أو اعتماد ضرب الأبناء بالعصا أو الحزام، وأحياناً طردهم خارج المنزل ليوم أو يومين من دون طعام أو مال. بعض هؤلاء يبررون الأمر بالقول إنّهم كانوا عرضة بدورهم للضرب من قبل آبائهم وأمهاتهم ولم يكن لذلك تأثير عليهم. لكنّ هذا غير صحيح إذ إنّ العنف الذي يمارسه البعض اليوم بحق أبنائهم هو نتاج العنف الذي تعرضوا له سابقاً، ما يعني استمرار دائرة العنف. تتابع: "العنف قد يكون جنحة أو جريمة. وهناك العنف النفسي الذي يغيب عن النقاش، ولا يوجد رصد لأثره على الأطفال".
وحول أسباب العنف والجريمة ضد الأطفال، تشير إلى أنّ الأسباب كثيرة، ولكلّ حالة ظروفها ومسبباتها. وترى أنّ الجهل يعدّ أحد أهم أسباب ممارسة العنف بحق الأطفال، خصوصاً عندما يكون الأب والأم غير مهيأين لتكوين أسرة بسبب الزواج المبكر. تعلق على هذه الظاهرة المنتشرة في المجتمع الأردني وفي العديد من المجتمعات العربية، والمجاورة: "في أحيان كثيرة، نصادف طفلات يربين طفلات، علماً أنّهن لا يعرفن أساليب التنشئة الصحيحة، ليبدأ التعنيف ضد الطفل بسبب عدم معرفة احتياجاته وعدم القدرة على تحمل المسؤولية. وأحياناً، يكون الطفل الحلقة الأضعف في الأسرة إذ يفرغ الوالدان غضبهما من خلاله".
وتلفت الحسن إلى أنّ الأهل، أحياناً، يريدون من الأبناء أن يكونوا مثاليّين في التصرفات والدراسة وتفاصيل الحياة اليومية. وفي حال عدم رضا الأهل عن تصرفات الأطفال، يكون العنف، مع الإشارة إلى أنّ الطفل لا يجب أن يحاسب بل من تولى تربيته. من جهة أخرى، تلفت إلى أسباب اقتصادية للعنف ضد الأطفال في ظلّ كثرة متطلباتهم وعدم القدرة على تلبيتها، ليتحول العجز إلى ضغط وأحياناً عنف. تتابع أنّ الأطفال يتعرضون للعنف ليس فقط من قبل الأهل، بل أحياناً من مقدمي الخدمة في دور الرعاية والمؤسسات التعليمية. وترى الحسن أنّ في الأردن استراتيجيات وقوانين لمواجهة العنف بحق الأطفال، لكنّ المطلوب تطبيق القانون على أرض الواقع، لافتة إلى وجود نحو 100 ألف طفل في سوق العمل، مطالبة بحماية هؤلاء كونهم الفئة الأكثر عرضة للاستغلال والعنف.
عواقب خطيرة
بدوره، يقول مستشار الطب الشرعي وخبير الأمم المتحدة في مواجهة العنف، هاني جهشان، لـ"العربي الجديد": "أوّل حالة سوء معاملة أطفال تم توثيقها في البلاد كانت داخل المركز الوطني للطبّ الشرعي عام 1987. وكشفت دراسة علمية أخرى عن 29 حالة عنفية خلال فترة ثلاث سنوات (1990 و1992)، ولم يكن هناك ما يشير إلى تقديم أيّ نوع من العلاج أو الدعم النفسي للأطفال أو العائلات" لافتاً إلى "السكوت عن حالات العنف". وخلال السنوات الماضية، شهد الأردن مبادرات إيجابية أدت إلى تطور نوعي في خدمات التبليغ عن العنف ضد الأطفال، إلّا أنّ هناك أزمة في الإحصائيات، إذ إنّ عدد الحالات المبلغ عنها لا يعكس مطلقاً الرقم الحقيقي للعنف الواقع بحق الأطفال، بحسب جهشان.
ويشير جهشان إلى أنّ "العنف بحق الأطفال ظاهرة مرضية منتشرة في مجتمعنا، وليست مرتبطة بالدين أو العرق أو المستوى الثقافي أو الاقتصادي. وما زال عدد كبير من الأطفال الذين يتعرضون للعنف مهملين وبعيدين عن عناية واهتمام المسؤولين، خصوصاً أولئك الذين يعانون من الاستغلال الجنسي، والذين لا تظهر بالضرورة علامات العنف على أجسادهم". ويصف جهشان قتل الأطفال بسبب العنف داخل الأسرة بالظاهرة، لافتاً إلى أنّ الأمر خطير ويستوجب قياسه والوقاية من عواقبه على الأسرة والمجتمع. ويشير إلى أنّ العنف قد يؤدي إلى تشوهات وإعاقات ومشاكل في الصحة الإنجابية وغيرها من الأمراض. وهناك علاقة بين تعرض الأطفال للعنف ومعاناتهم لاحقاً من أمراض القلب والاضطرابات النفسية واضطرابات النوم والطعام والسلوك الاجرامي والانحراف من قبيل إدمان الكحول والمخدرات، كما يقول.
ويتابع أنّ العنف ضد الأطفال ظاهرة تستوجب التعامل معها ومع عواقبها، وأيّ تصريح لأيّ مسؤول أو إعلامي أو محامٍ مفاده أنّ العنف "ليس ظاهرة" أو أنّه دخيل على مجتمعنا "هو نفاق". ويضيف أنّ الطبّ الشرعي يحدد نوع الإصابات وطبيعتها وخطورتها وظروف حدوثها سواء كانت جنائية أو مفتعلة أو عرضية، وإظهار ما نتج عنها من تعطيل للحياة اليومية أو التسبب بعاهة دائمة أو تشوه جسيم، ومحاولة تصور لسيناريو حصول الإيذاء، وتحديد الأداة المستعملة، وفي بعض الحالات تقدير الفترة الزمنية التي مضت على حصول الإيذاء.
ويؤكد جهشان أنّه بالإضافة إلى الدور التقليدي للطبّ الشرعي، المتمثل في جمع الأدلة وتقييم الضرر والتوثيق من خلال التقارير الطبية القضائية التي تعرض على النيابة والجهات القضائية المختصة، هناك دور محوري يرتبط بالطفل نفسه والجهات المحيطة به في البيت والمدرسة والشارع، كما الجهات الحكومية الرقابية، للمساهمة بالكشف المبكر عن الحالات، الأمر الذي يساهم في التخفيف من معاناة الضحايا وعدم تكرار الإساءة. ويشير إلى أنّ أشكال العنف ضد الأطفال تتجاوز الإيذاء؛ فهناك الاتجار بالأطفال، والاستغلال الجنسي، وجرائم الخطف، وإهمال تقديم الرعاية، والجرائم المتعلقة بالصحة الإنجابية للأم سواء كان الأمر يتعلق بقتل الطفل أو الإجهاض. ويقول: "هناك سهولة لقتل الأطفال من دون استخدام أدوات القتل التقليدية مثل الأسلحة والأدوات الحادة، من خلال الضرب على الرأس، أو الحرق، أو الحرمان من الطعام، أو الإهمال. وعادة ما يجري تعنيف الأطفال بما هو متوفر في المنزل من أسلاك كهربائية أو حرق بعيدان ثقاب أو ضرب بالملاعق والسكاكين، أو عضّ، أو تسميم بمواد التنظيف، أو أدوية.
ويرى جهشان أنّ مشكلة العنف ضد الأطفال لا يمكن حلّها ببساطة من خلال "ردود أفعال" حيال وفاة طفل تعرّض للعنف، أو بسبب تعرض طفل من ذوي الإعاقة لحروق شديدة، لافتاً إلى أنّ العنف بحق الأطفال أمر شائع ومعقد ويتطلب تدخّلاً على المستوى الوطني وبأسلوب ممنهج قائم على الدليل عن طريق المناهج العلمية، بهدف التعامل مع جذور العنف على المستويات كافة، والوقاية منه، والاكتشاف المبكر للحالات قبل تفاقمهما. ويحذّر من أنّ الاخفاق في الأمر لن يؤدي إلّا إلى مزيد من الوفيات بين الأطفال. وإن لم تعتمد هذه المرجعية الوقائية، فلن يكون هناك أيّ فائدة من لجان تحقق في وفاة هؤلاء الأطفال، ولا من غضب المجتمع على موتهم. يضيف أنّ المسؤول عن انتهاك حقوق هؤلاء الأطفال ليسوا المجرمين الأشرار الذين قاموا بتعذيبهم والذين يستحقون أشد عقاب، بل إنّ الحكومة هي من انتهكت حقهم بالحياة والحماية، وقد أخفقت أنظمتها في كشف حالتهم مبكراً وبالتالي الوقاية من موتهم تعذيباً.