يترافق انتشار الاغتصاب في الهند مع التركيز على إناث طبقة الداليت المصنفة بأنها أقل قيمة من بقية طبقات مجتمع الهند، والتي تُزدرى رغم أن الهند ألغت رسمياً النظام الطبقي.
أعادت جريمة اغتصاب طفلة في الـ13 من العمر في الهند أخيراً الجدل في شأن هذه الظاهرة الجرمية المنتشرة والتي تمسّ عشرات الآلاف سنوياً. والحقيقة أن بشاعة هذه الجريمة تجاوزت قصة تعرض شابة لاغتصاب جماعي قبل قتلها عام 2012، والتي أثارت موجة غضب في الشارع أفضت إلى فرض عقوبة الإعدام على مرتكبي الاغتصاب في حق فتيات دون 12 سنة. وفي تفاصيل الجريمة الأكثر حداثة، خطف أربعة شبان الطفلة الضحية التي تنتمي إلى ما يسمى "داليت" المنبوذين بدون طبقة اجتماعية في النظام الطبقي الهندي، من حي منزلها في لاتيبور التي تبعد 500 كيلومتر من جنوب العاصمة نيودلهي، ونقلوها إلى ولاية ماديا براديش المجاورة كـ"أداة تسلية جنسية"، بحسب ما قالت صحف محلية.
وذكرت صحيفة ذا إنديان إكسبرس التي امتنعت عن وصف الطفلة أنها "ضحية بل ناجية من اغتصاب"، أن "الشبان تناوبوا على اغتصابها لمدة أربعة أيام، قبل أن يعيدوها إلى منطقتها في 26 إبريل/ نيسان الماضي. ثم ذهبت مع عمتها إلى مركز الشرطة لتقديم شكوى، حيث تعرضت مجدداً لاغتصاب على يد من يفترض أنهم يطبقون القانون، ويحمون الضحايا". أضافت: "هكذا تجدد كابوس اغتصاب الطفلة على يد الضابط المناوب وعدد من الشرطيين بوجود عمتها في مخفر الشرطة. وقد أخبرت والدتها تفاصيل ما حصل لوسائل الإعلام، ما أثار غضباً عارماً في الشارع، واضطر السلطات إلى احتجاز الضابط المناوب، ووقف عمل نحو 29 شرطياً حضروا في وقت حدوث الاغتصاب، في إطار التحقيق بالواقعة".
فعلياً، تعيش الهند منذ نحو 10 سنوات في حالة جدل كبير من تكاثر ضحايا الاغتصاب، خاصة في صفوف القاصرات اللواتي حدد تقرير أصدره المكتب الوطني لسجلات الجريمة عددهن بـ 28000 عام 2020. وبالنسبة إلى النساء عموماً، باتت ظاهرة الاغتصاب الجماعي في الهند، أو أشكال أخرى من الاعتداء الجنسي، تشكل أزمة في البلد الشاسع والمكتظ، وترتبط أيضاً بثقافة التمييز بين الطبقات الاجتماعية والسياسة المتهمة بالتراخي. وعلى الرغم من مرور 10 سنوات على تشديد القوانين والتركيز الإعلامي المتزايد على ظاهرة الاغتصاب، بعد واقعة الشابة التي اغتصبها سائق حافلة ومجموعة ركاب قبل قتلها عام 2012، والتي جعلت الهنود أكثر وعياً بالجريمة، ودفعت الحكومة إلى تبني قانون إعدام المدانين باغتصاب فتيات دون 12 عاماً، لكن ذلك لم يساهم في تراجع حالات اغتصاب الصغيرات وقتل بعضهن عبر قطع رؤوسهن، خصوصاً من إناث طبقة "داليت" اللواتي ينظر إليهن باعتبارهن أقل قيمة من بقية طبقات المجتمع، ويواجهون ازدراء بقية الطبقات، رغم أن الهند ألغت رسمياً النظام الطبقي في الخمسينات من القرن العشرين.
يعتبر كثيرون ممن يدافعون عن حقوق الإنسان في الهند وخارجها أن التوجهات القومية الهندوسية المتشددة التي ينفذها رئيس الوزراء ناريندا مودي منذ عام 2014 زادت مشكلة ازدراء الطبقات المنبوذة أو المصنفة بأنها غير مؤيدة للتطرف الهندوسي، والذين لا تقل نسبتهم عن ربع سكان البلاد البالغ 1.3 مليار. وشكل السجال المتجدد حول جرائم الخطف والاغتصاب في حق النساء والفتيات فرصة أخرى للمعارضة الهندية من أجل انتقاد السياسات المتشددة لمودي. وسألت الأمينة العامة لحزب "المؤتمر الهندي" بريانكا غاندي فادرا: "إذا كانت أقسام الشرطة غير آمنة للنساء، فأين يجب أن يذهبن؟". وما زاد غضب الشارع أن رئيس وزراء ولاية أوتار براديش التي احتضنت جريمة اغتصاب الطفلة من طبقة "داليت"، الراهب الهندوسي المتشدد يوغي أديتياناث، التزم الصمت حيال الاغتصاب الذي هزّ الرأي العام، علماً أنه مؤيد لحزب "بهاراتيا جاناتا" المتشدد بزعامة مودي الذي لم يعلق بدوره على ما جرى.
وأطلقت المواقف السلبية لمسؤولي الولاية الأكثر اكتظاظاً تظاهرات طلابية شهدت حرق صورة الحاكم أديتياناث، وإطلاق هتافات معادية لمودي. واعتبرت غاندي أن مشاركة ضباط في الشرطة في اغتصاب جماعي لفتاة جاءت لطلب حماية منهم "يؤكد وجود إلى مشكلة عميقة في المجتمع الهندي"، وطالبت بحلول سريعة ولو مؤقتة عبر فرز المزيد من النساء في أقسام الشرطة.
وندد بيان أصدرته اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في الهند بالحادثة وبانتهاك حقوق الإنسان والعنف الطبقي ضد النساء والفتيات، علماً أن الواقعة الأكثر حداثة سبقتها جرائم كثيرة أخرى، وبينها قيام أربعة رجال، بينهم كاهن هندوسي، باغتصاب فتاة من "الداليت" في التاسعة من العمر وقتلها في أغسطس/ آب 2021، حين شهدت شوارع الهند وجامعاتها احتجاجات على توالي حالات الاغتصاب الجماعي، وعدم ردع القوانين هذه الجرائم.
وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، اغتصبت شابة في الـ19 من العمر تنتمي أيضاً إلى فئة "داليت" الذين تضم نحو 201 مليون. وجاء ذلك بعد أقل من شهر على قتل فتاة في الـ13 من العمر. ويعتبر ناشطون وسياسيون معارضون لمودي أن تزايد جرائم الاغتصاب والقتل في حق "الداليت" يعكس أجواء الكراهية التي يؤججها تصاعد القومية الهندوسية المتشددة في ظل حكم حزب "بهاراتيا جاناتا"، والخطاب المتطرف لمودي نفسه.
ويشير تقرير نشرته منظمة "المساواة" غير الحكومية إلى أن "الطبقات المهيمنة تستخدم العنف الجسدي لقمع نساء وفتيات الداليت". ويتحدث عن أن "نساء وفتيات الداليت يحرمن غالباً من الوصول إلى العدالة في حالات العنف الجنسي بسبب ثقافة الإفلات من العقاب، لا سيما عندما يكون الجناة من الطبقات المهيمنة".
وخلال رحلاته في الدول الأوروبية، وبينها ألمانيا والدنمارك، أطلق مودي شعارات نسوية مثل "المرأة القوية تعني هند قوية"، في سياق تسويق نفسه باعتباره يدافع عن حقوق المرأة ويكافح "ثقافة الاغتصاب"، لكن الواقع يشير إلى أن الأمور لا تجري على ما يرام. ويعلّق حزب "ساماجوادي" الاجتماعي الديمقراطي في الهند بأن "غياب النساء الشرطيات يجعل مراكز الشرطة بين الأماكن الاقل أماناً للنساء".
وكان النظام الطبقي في الهند قد ألغي رسمياً عام 1950، لكن العمل استمر بالتسلسل الهرمي الاجتماعي السائد منذ نحو ألفي سنة، والذي يفرض على الأشخاص الولادة من دون قدرة على مغادرة الطبقة طوال الحياة. ويحدد نظام الطبقات الهندوسي مكانة الشخص في المجتمع منذ الولادة وحتى الوفاة، وطبيعة الوظائف التي يسمح له بممارستها وخيارات الزواج، ما يحرم الناس من العيش في ظل نظام عدالة اجتماعية والحصول على فرص متساوية. وأولئك الذين لا يصنفون في الطبقات الأربع الرئيسية، وهي البراهمين (كهنة ومعلمون) وكشاتريا (محاربون وحكام) وفايشياس (تجار) وشودرا (عمال)، يعتبرون من المهمشين أو المنبوذين الذين يطلق عليهم اسم "داليت".
واللافت أن الدستور الهندي يصنف قبائل "أديفاسي"، باعتبارهم الهنود الأصليين، لكن يجرى تمييزهم طبقياً أيضاً، كما ألغى الزعيم الهندي مهاتما غاندي تسمية "داليت"، لكن لا يسمح إلا بعمل أفراد الطبقتين في جمع القمامة والتنظيف ورعاية البقر وأفران الطوب وصناعة الجلود والصرف الصحي، أي كل المهن التي يعتبرها أفراد باقي الطبقات "قذرة وغير كريمة". وهم لا يستطيعون الحصول على وظائف وأعمال أخرى، ويواجهون أبشع أنواع التمييز المؤسساتي والمجتمعي. وفي معظم الأزمات المتعلقة بأمراض وبائية مثل الإنفلونزا الإسبانية وكورونا أخيراً وضع هؤلاء المهمشون في صفوف المواجهة الأولى من دون توفير وسائل حماية لهم، ما جعلهم الأكثر عرضة للفيروسات القاتلة، من دون وجود تأمين صحي أو شبكات ضمان اجتماعي تنقذهم من الفقر المدقع الذي يعيشونه.
ويبدو جلياً أن الأنظمة الاجتماعية والسياسية والثقافة السائدة في الهند تعرقل دائماً المحاولات الجدية لتطبيق التشريعات الخاصة بالمساواة بين البشر. وتخشى أحزاب وقوى سياسية واجتماعية في البلاد المسّ بالثقافة المتوارثة الخاصة بالتقسيم الطبقي، ما يرسخ الفرز القائم. ويتكرر اتهام مودي بتغذية التطرف الهندوسي القومي حتى في وجه من يصنفون بأنهم هندوس، ومحاولة الحفاظ على شعبيته على أساس التقسيم الطبقي الصارم الذي يحتقر حقوق ومساواة لعشرات لملايين من البشر.