هكذا تبدّل نفوذ النخب القريبة من بوتين

22 فبراير 2023
فقد شويغو أي إمكانية لخلافة بوتين في العام المقبل (Getty)
+ الخط -

بعد عام على الحرب الروسية على أوكرانيا، لم تُسجل حالات انشقاق أو إقالات كبيرة في روسيا، وحافظت النخبة المحيطة بالرئيس فلاديمير بوتين ظاهرياً على وحدتها، على الرغم من مراهنة أطراف غربية على أن سيل العقوبات غير المسبوقة، الهادفة إلى إضعاف الاقتصاد الروسي وشلّ قدرته على مواصلة دعم الآلة العسكرية، يمكن أن تتسبب أيضاً في تصدعات كبيرة في الدائرة الأقرب إلى بوتين أو على الأقل التأثير لدفعه نحو التفاوض من دون شروط مسبقة وطلبات تعجيزية.

بنظرة سريعة إلى عناوين وسائل الإعلام الروسية حالياً، ازداد حضور عدد من الشخصيات التي شاركت في اجتماع بوتين الشهير قبل عام، وخُصص حينها للبتّ في مسألة الاعتراف باستقلال "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك" الانفصاليتين الأوكرانيتين، بوجود قادة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية ووزارة الدفاع ومجلسي الدوما والاتحاد، وبُثّت تفاصيله على الهواء في سابقة هي الأولى من نوعها، ربما في العالم، لعرض نقاشات أركان حكم دولة ما لقرار مصيري تلاه اندلاع حرب غيّرت وجه العالم وستؤثر لسنوات على روسيا والعالم.

بروز وجوه وتراجع أخرى

كما تراجع حضور وجوه أخرى، في مقابل صعود "صاروخي" لشخصيات مثل يفغيني بريغوجين مؤسس مرتزقة "فاغنر"، مع الحديث عن قربه من بوتين، مشكّلاً مادة لتقارير صحافية واستقصائية كلفت معدّيها الكثير.

وازداد نفوذ قادة محليين في المقاطعات مثل حاكم الشيشان رمضان قديروف، الذي بات في فترات متحدثاً إضافياً باسم وزارة الدفاع الروسية عن سير المعارك، ولم تعدّ تصريحاته النارية مثار جدل كبير، كما درجت العادة في السنوات الماضية.

وتراجع ظهور قادة محليين بارزين، مثل محافظ مدينة موسكو سيرغي سوبيانين، وسط تساؤلات عن حقيقة دعمه للحرب. وبدا واضحاً أن مركز صنع القرار في روسيا لم يعد قادراً على ضبط تصريحات من هنا وهناك، تكشف عن خلافات حول بعض القضايا الداخلية مع تركيز ديوان الكرملين على تفاصيل الحرب اليومية.

انتقل ميدفيديف فجأة من دور السياسي الليبرالي الداعم للتقارب مع الغرب، إلى واحد من أهم صقور الحرب

وفي حين زادت وتيرة وحدة تصريحات أحزاب المعارضة "النظامية" (المدجنة) الداعمة للحرب، حافظ رجال الأعمال من الدائرة المقربة من بوتين على "وطنيتهم" وصمتهم، على الرغم من الخسائر الكبيرة التي منيوا بها، وحرمان كثير منهم من التمتع باستراحات صيفية أو شتوية في "الغرب الجماعي" (وفق التسمية التي أطلقها بوتين على المعسكر الغربي)، الذي اشتروا فيه منازل وقصوراً فخمة واحتفظوا بحسابات في مصارفه ووجهوا أبناءهم للدراسة والعيش فيه.

وبدا لافتاً أن التأثيرات الكبيرة للحرب على جميع مناحي الحياة في روسيا لم تفض إلى تغيرات كبيرة في تشكيلة الطبقة المتحكمة في القرار في روسيا، أو ما يعرف باسم "المكتب السياسي 2" (نسبة للمكتب السياسي أيام الاتحاد السوفييتي) الذي يضم قادة أمنيين وأوليغارشيين من أصدقاء بوتين وبعض السياسيين والوزراء.

وربما يمكن تفسير ذلك برغبة بوتين في المحافظة على صورة النخبة المتماسكة أمام المجتمع، في هذه الحقبة الحاسمة في تاريخ روسيا وكيفية التطرق لشخصية بوتين في الكتب المستقبلية.

أيدت معظم النخب قبل عام الاعتراف بـ"جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك" الانفصاليتين. ودعمت الحرب منذ الأيام الأولى، والأرجح أن الدائرة المحيطة بالرئيس الروسي كانت تراهن على أن بوتين الآتي من أجهزة الاستخبارات ولاعب الجودو يجيد قراءة التغيرات، واللعب على التوازنات الدولية، ويعرف قدرات الخصم جيداً، ومدى الدعم المنتظر من بلدان الغرب لأوكرانيا، وأن الحرب ستنتهي بانتصار سريع وحاسم.

وعلى الرغم من تبدد هذه الآمال سريعاً مع صمود "أم المدن الروسية" العاصمة الأوكرانية كييف، ورفضها تسليم المفاتيح لجنرالات القيصر القادم من الشرق، فقد أبدت النخب تماسكاً لافتاً، وتم تحميل المسؤولية في فشل الحسم السريع لعدد من ضباط الصف الثاني في هيئة الأمن الفيدرالي والاستخبارات العسكرية.

وواصل رجال الأعمال دعم الجيش، وعمل المشرّعون على سنّ قوانين صارمة ضد نشر "أخبار كاذبة" عن سير العمليات تخالف البيانات الرسمية. وعملت بروباغاندا الكرملين على تحسين صورة الجيش وجنرالاته.

ومع أن الثقة ببوتين تراجعت فإن النخب بقيت متماسكة حول شخصيته لانعدام البديل القادر على أداء دور الحكم والقادر على تحقيق التوازن بين مختلف مراكز القوى، والأهم ربما هو عدم الإيمان بإمكانية الإفلات من العقوبات الغربية والمحاكمات لاحقاً. ولكن التماسك الظاهري لم يمنع من نشوب خلافات كبيرة، مع انتهاز بعض الشخصيات الفرصة لاستعادة نفوذها.

كشفت الحرب عن زيادة تأثير سيرغي كيريينكو النائب الأول لرئيس ديوان الكرملين

عودة ميدفيديف


وبعد سنوات من تراجع دوره، وفقدانه الأمل في أن يؤدي مجدداً دور خليفة بوتين، علا صوت الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف، وانتقل فجأة من دور السياسي الليبرالي الداعم للتقارب مع الغرب، إلى واحد من أهم صقور الحرب.

ومع أنه لم يزر الجبهات ولم يرتدِ الملابس "الخضراء" أو "الخاكي" تصدّر ميدفيديف المشهد الإعلامي بتصريحاته النارية حول الحرب النووية، وتهديده أوكرانيا و"داعميها الغربيين". وانتقل من عمل روتيني في منصب استُحدث وفُصّل على قياس رئيس سابق من دون نفوذ إلى مصنع للرسائل النارية، ولاحقاً الإشراف على عمل مصانع الإنتاج العسكري.

واللافت أن ميدفيديف لم يطلق أي تصريحات يمكن أن تتسبب في صراعات مع الجيش أو الأجهزة الأمنية أو الأوليغارشيين واقتصرت على رسائله على تحذير الغرب.

وضمن معسكر الصقور برز حاكم الشيشان رمضان قديروف "جندي المهمات القذرة في جيش بوتين"، وعكس ميدفيديف لم يقتصر دوره على مهاجمة الغرب، بل فتح الباب أمام كثير من المراسلين العسكريين من أجل انتقاد أداء الجنرالات الروس في المعركة أكثر من مرة.

ونظراً للاعتماد الكبير على القوات الخاصة الشيشانية "أحمد سيلا" (قوات أحمد التي تحمل اسم والده الرئيس الشيشاني الأسبق أحمد قديروف)، وتحالفه مع رئيس الحرس الوطني فيكتور زولوتوف، ومؤسس "فاغنر" بريغوجين، تغاضى الكرملين والأجهزة الأمنية عن تصريحاته.

وفي نهاية الصيف الماضي، ازدادت الشائعات بأن قديروف الذي حصل على لقب جنرال ووسام "بطل روسيا" مكافأة لجهوده، يمكن أن ينتقل إلى شغل منصب مهم على المستوى الفيدرالي وتوسع نفوذه، الذي كان مقتصراً قبل الحرب على حكم الجمهورية القوقازية بالنار والدم وقمع معارضيه ومنع أي حراك مجتمعي أو انفصالي.

ولكن تطورات الأحداث في الأشهر الأخيرة من العام الماضي، كشف انحياز بوتين للجيش وجنرالاته الذين يعارضون لأسباب كثيرة إمكانية انتقال قديروف المقاتل السابق ضد الجيش الروسي وابن مفتي الانفصاليين إلى الجيش أو الحرس الوطني. وفي الأيام الأخيرة، أعلن قديروف عزمه تأسيس شركة عسكرية خاصة على غرار "فاغنر" بعد انتهاء عمله كحاكم للشيشان، التي باتت بكل الأحوال تحت قبضه أقاربه وعشيرته المسيطرين على أهم المراكز الحكومية.

وشكّل "طباخ بوتين" مفاجأة الحرب الأولى، فمن إنكار أي علاقة له مع بوتين أو مجموعة مرتزقة "فاغنر"، تصدّر بريغوجين ومقاتليه نشرات الأخبار.

ولم يكتفِ بإعلان تمويله وقيادته لـ "فاغنر"، بل ابتكر حلاً لنقص الأشخاص اللازمين لـ "مطحنة اللحم"، المصطلح الذي يتردد كثيراً عن الجنود الذين يزج بهم في الصفوف الأولى، من دون التجهيز اللازم أو السلاح الكافي من أجل إشغال العدو، وتشتيت قوته وفتح طريق للقوات النظامية أو المجموعات الأكثر تدريباً للسيطرة على منطقة ما.

واستطاع بريغوجين تجنيد عشرات الآلاف من المحكومين بقضايا جنائية بعد جولات على السجون مع وعود بإطلاق سراحهم بعد القتال لستة أشهر. وافتتحت "فاغنر" مراكز لقبول المتطوعين للقتال في الجبهات.

تراجع نفوذ محافظ موسكو وشويغو وبرز قديروف وبريغوجين

وعلى الرغم من صعود بريغوجين السريع، لكن لا يبدو أنه حجز مكاناً مناسباً ضمن الدائرة الضيقة من بوتين، الذي لم يستقبله في الكرملين أو يمنحه أي وسام، على عكس قديروف والجنرالات المحاربين في أوكرانيا.

ومع أن الحاجة لبريغوجين ومرتزقته ما زالت كبيرة، فالأرجح أن بوتين لا يريد تدمير مؤسسة مهمة مثل الجيش، بغض النظر عن أدائها السيئ، وزيادة نفوذ المرتزقة والشركات الأمنية الخاصة داخل روسيا، بل يرغب في أن تواصل "فاغنر" دورها في مهمات خارج البلاد لخدمة مصالح الكرملين والأوليغارشيين المقربين منه في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

كيريينكو وشويغو

وكشفت الحرب عن زيادة تأثير سيرغي كيريينكو النائب الأول لرئيس ديوان الكرملين ضمن النخبة الحاكمة، بعد ضم أربع مناطق أوكرانية جديدة لروسيا (لوغانسك، دونيتسك، خيرسون، زابوريجيا)، وإشرافه على عمليات دمج المقاطعات الجديدة بالمنظومة الإدارية والاقتصادية الروسية.

كما استطاع كيريينكو، المسؤول عن السياسة الداخلية، تطويع المشرعين والأحزاب المعارضة لدعم مخططات بوتين بالكامل من دون أي اعتراض، والمساعدة في سن القوانين والتشريعات.

وفي حال صح تقسيم النخبة المقربة من بوتين إلى رابحين وخاسرين، فإن وزير الدفاع سيرغي شويغو يتصدر قائمة الخاسرين، مع تراجع الثقة الشعبية فيه بعد انكشاف الضعف الكبير للجيش، وبهذا فقد شويغو أي إمكانية ليكون خليفة لبوتين في العام المقبل.

ومن المؤكد أن عمدة موسكو سيرغي سوبيانين سيدفع ثمن تقاعسه عن الترويج للحرب و"التهليل" لها، والأرجح أن السياسي "التكنوقراط" الذي يحكم دولة في داخل دولة لن يحظى بدعم الكرملين في الانتخابات المقبلة 2024، لا في موسكو ولا كخليفة لبوتين يعمل على موازنة مصالح مراكز القوى المختلفة.

وعلى الرغم من تماسك النخبة الحاكمة ظاهرياً، إلا أن هناك انقسامات خفية مرتبطة أساساً بخلافة بوتين ونتائج الحرب على أوكرانيا. ويمكن أن نميز بوضوح بين تيارين: التيار الأول هو فريق البراغماتيين الذي ازدادت قوته بعد النكسة في خاركيف (الواقعة في الشمال الشرقي من أوكرانيا، والتي استردتها كييف في سبتمبر/أيلول الماضي)، والانسحاب من خيرسون، جنوبي أوكرانيا، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وضرب جسر القرم في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وهو فريق مؤيد للحرب ولكنه ليس مع إطالة أمدها إلى ما لا نهاية. ويضم هذا المعسكر تكنوقراطا ومسؤولين أمنيين من المستوى المتوسط. أما الفريق الثاني فيضم مؤيدي التصعيد الذين يفضلون تكرار سيناريو حرب الشيشان الثانية (1999 ـ 2009)، أي استخدام القوة المفرطة والأرض المحروقة، وإسقاط نظام الحكم في أوكرانيا وتعيين نظام سياسي مؤيد لروسيا في كييف، أو تقسيم أوكرانيا بين روسيا ودول الجوار، مثل المجر وبولندا ورومانيا.

ومن المؤكد أن الصراع بين هذين التيارين ستحددها الأوضاع الميدانية العسكرية في أوكرانيا، التي ستحدد أيضاً مستقبل الانتخابات الرئاسية في روسيا في عام 2024 ومسار روسيا لسنوات طويلة مقبلة.

سيرة سياسية
التحديثات الحية