دي لينكه اليساري الألماني... من معارضة الناتو والتسلح إلى تأييدهما

06 اغسطس 2024
مارتن شيرديوان الرئيس المشارك لحزب دي لينكه، 19 مارس 2024 (Getty)
+ الخط -

منذ أن انتهجت برلين مواقف متصلبة على خلفية الحرب الأوكرانية ودخلت في سباق تسلح، أصبحت مواقف حزب "دي لينكه" اليساري في الائتلاف الحاكم تثير جدلاً. فوزيرة الخارجية أنالينا بيربوك تقدم مواقف مغايرة لمواقف يسارية أوروبية تجاه حلف شمال الأطلسي (ناتو) والتسلح، وتأييد صرف مئات مليارات اليورو على ذلك، وفي ذلك اختراق ضخم للقيود التي فرضت على الجيش الألماني الجديد بعد الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، ومنذ تأسيسه في 1952.

النقاش وتأييد "دي لينكه" العسكرة المتزايدة بقوة بعد الحرب في أوكرانيا، وكذلك تأييده انضمام فنلندا والسويد -المحايدتين تاريخيا- إلى حلف الناتو، يساهم مع غيره في تقديم هذا الشكل من اليسار بصورة معاكسة لمواقف التيار عموما. فحساسية ما سماه اليسار الألماني "ميلا نحو الإمبريالية" على مستوى القارة ومسؤولية الجيش الألماني عن الحرب العالمية الثانية، لم تعد ذات قيمة هذه الأيام.

وعلى النقيض من مواقف الحزب الشيوعي الألماني التقليدي المستمر في معارضته للعسكرة وللناتو، وانتقاده اللاذع لتوجهات "دي لينكه"، كما جاء على لسان زعيمه باتريك كوبيلي في مقابلة مع صحيفة "أربايدن" الدنماركية قبل أكثر من عامين، يبدو حزب "دي لينكه" في طريقه للانقلاب على اليسار.

"دي لينكه"، الذي يضم بحسب التقديرات الألمانية نحو 63 ألف عضو، ولديه 39 مقعداً في البرلمان الاتحادي، يبدو أنه أصبح ميالا لتبني الاشتراكية الديمقراطية، ومواقف لم تكن قيادات الحزب تجرؤ عليها قبل الحرب الأوكرانية.

مقرر السياسات الخارجية في المجموعة البرلمانية للحزب غريغور غيسيس حاجج على مدار أكثر من عامين لتبرير التغيير باسم "التهديد الروسي"، فأيد حلف الناتو وصرف أموالا ضخمة على التسلح الألماني. بل واعتبرت بيربوك أن الألمان كانوا يأخذون السلام وأمنهم كمسلمات، معتقدة أن حرب أوكرانيا أثبتت لهم العكس. وفي 23 مارس/آذار 2022 صرح غيسيس لصحيفة "سوددويتشه تسايتونغ" بأن "اليسار يجب أن يعيد تقييم بعض وجهات نظره"، وهو بالفعل ما تم منذ تاريخه. وبرغم جهود قيادته في مجموعته البرلمانية كأنطون هوفريتر وسوزان هيننغ ويلسو وغيسيس وآخرين، فإن التبريرات لم تقنع كل أعضاء وقواعد الحزب لنقلهم من مواقف ثورية يسارية رافضة الحروب وسباق التسلح إلى قبولهما.

في قواعده وبين جمهوره، سواء من بقوا داخل الحزب أو من خرجوا منه، هناك معارضون لهذه التوجهات القيادية. ويشتكي أعضاء في "دي لينكه" من المتضامين مع فلسطين من تلك التحولات، حيث يتهمون بيربوك بالتماهي مع مواقف المستشار أولاف شولتز من الحرب على غزة ودعم دولة الاحتلال الإسرائيلي. بالطبع هناك كثيرون في القواعد الحزبية يضربون عرض الحائط بتلك التوجهات، فيشاركون في الفعاليات المتضامنة مع غزة والداعية لوقف الحرب، انطلاقا من مبدأ "التضامن العالمي" عند اليسار، رافضين السيف المسلط لتكميم الأفواه بحجة "معاداة السامية"، التي تتبناها بيربوك أكثر من تيارات يهودية ديمقراطية معارضة للحرب. واستفادت بيربوك لترسيخ نفوذها الحزبي من خروج مؤسس الحزب منه أوسكار لافونتين، في مارس/آذار 2022، كما فعل غيره طيلة العامين الماضيين.

وما يلاحظ خلال الفترة الأخيرة اندفاع "دي لينكه" للقفز عن موقف يعارض مشاركة الجيش الألماني في مهمات خارجية دون تفويض الأمم المتحدة. وباستثناء المشاركة باسم هذا التفويض في كوريا الجنوبية أخيرا، جرى بعيدا عن الأمم المتحدة نشر آلاف الجنود في ليتوانيا وبحر البلطيق، والانخراط عميقا في الحرب الأوكرانية، ودعم الاحتلال الإسرائيلي أمنيا ودفاعيا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ما يشي بأن الحزب يتحول إلى النزعة العسكرية. ويبدو أن إصرار التحالف الحاكم في برلين، ومنه "دي لينكه"، على هذا التوجه العسكري، لا يهمه حتى جر البلد إلى محكمة العدل الدولية، من خلال شكوى نيكاراغوا.

مع مثل تلك التحولات يصبح من الصعب إيجاد تمايز كبير بين سياسات "دي لينكه" ومعسكر اليمين، بل حتى بعض اليمين القومي المؤيد لتل أبيب، والخلط المتعمد بين انتقاد الصهيونية وشعار "محاربة معاداة السامية".

في كل الأحوال، هذه المواقف تنسف مواقف يسارية سابقة للحزب، كانت تعتبر الناتو حلفا عدوانيا إمبرياليا، وليس "حلفا دفاعيا"، وترفض توسعه نحو شرق أوروبا خلال خمس موجات بعد 1990، وتحمل الحلف مسؤولية "الانقلاب في كييف" عام 2014. عليه، يبدو أن المشاركة في السلطة تستحق عند هذا الشكل من اليسار نسف المبادئ والقيم التي اتسم بها.

ومع صحة أن المزاج الشعبي في ألمانيا، كدول أخرى، بما فيها السويد وفنلندا، صار أكثر ميلا لقبول فكرة أن الناتو يشكل "مظلة دفاعية- أمنية" لبلادهم، وهو ما يتسلح به تيار بيربوك في الحزب، إلا أن ذلك يعد مخاطرة تحيل حزب دي لينكه إلى شعبوية يسارية تتماشى مع تيار عام تخلقه ظروف طارئة وليست ثابتة، وعلى حساب شعارات وبرامج أن "السلام هو الطريق الأفضل لحل المشكلات"، واستبداله بكليشيه أوروبية طاغية: "إذا أردنا السلام فعلينا الاستعداد للحرب".